تنبيهات
الغرض من هذا الجواب دفع إشكال واحدٍ محددٍ على دليل الإعجاز البلاغي للقرآن، وهو: كيفية تَعَقُّل قيام حُجَّة الإعجاز البلاغي للقرآن على غير العالم باللغة العربيَّة، ومن ثَمَّ فهي:
- لا تتناول الإشكالات على أصل فكرة الإعجاز ودلالة الإعجاز على النبوة.
- ولا تتناول الإشكالات على وجوه إعجاز القرآن الأخرى -إن صحّت- غير الوجه البلاغي الذي نحن بصدده.
- ولا تتناول الإشكالات الأخرى على دليل الإعجاز البلاغي.
(راجع الجواب على كيفية اثبات النبوة والأدلة على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله)
مصادرة الإشكال
تقوم فكرة الإشكال على مصادرة -صحيحة- لا يتم الإشكال إلا بها، و هي: أن دليل الإعجاز الدال على نبوة النبي -أي نبي- ينبغي أن يكون دليلًا عقليًا موضوعيًا تقوم به الحجة على من كُلِّف به. بمعنى: أنه دليل عقلي عام صالح للاحتجاج به على كل عاقل مُطالب بالتصديق به، فلا يصح أن يكون قائمًا على مجموعة من المكلفين دون أخرى لا تستطيع معرفته وتحصيله والكشف عنه بسبب مانع تكويني راجع إلى الله -سبحانه-، ومثال ذلك: أن يكون دليل النبوة المستدَل به على البشر لا يمكن إقامته إلا في عالم الجن ولا سبيل للإنس للوصول إليه، ومرجع هذه المصادرة يعود لقبح التكليف بما لا طريق إليه، وهذه قضية بدهية.
نعم، لا إشكال في قيام دليل الإعجاز على مجموعة معيّنة من المتخصّصين في علم تخصّصي، ثم ينقل هؤلاء المتخصّصون شهاداتهم بقيام المعجز على يد هذا النبي إلى غيرهم من العوام غير المتخصّصين الذين لم يتضح لهم موضع الإعجاز بصورة دقيقة، ولكن يشترط في هذا الفرض أن تحقق شهادات هؤلاء العلماء المتخصّصين = العلم الموضوعي القطعي لدى العوام المكلّفين بوقوع المعجز على يد هذا النبي، فهنا قامت الحجة على هؤلاء العوام ولم ينقطع الطريق لقيام الحجة علىهم كما هو واضح.
فعلى سبيل المثال؛ لو قُدِّر وأن بعث الله نبيًا في عصرنا الحالي -بصرف النظر عن ختم النبوة- وكانت مُعجزته المطابقة لدعواه هي: حلّه لمعضلات فيزيائيّة كميّة حيّرت أكابر علماء فيزياء الكم، ثم شَهِد هؤلاء الفيزيائيّون المتخصصّون بأن ما جاء به هذا الإنسان = خارقٌ للعادة وليس من جنس مقدوراتهم، ثم نقلوا هذه الشهادات للناس بصورة توجب العلم القطعي بوقوع هذا المعجز = فسوف تقوم الحجة على الناس بذلك، حتى ولو لم يفهم الناس تفصيل ما جاء به من حل للمعضلات الكمية.
وفائدة هذه المصادرة واضحة، فإن لم نشترط موضوعية الدليل العقلي فسوف يجوز حينئذٍ أن يحتج الله على قوم بأمر لا طريق لهم إلى معرفته وتحصيله، وهو فعل قبيح بالبداهة يتنزه الله -تعالى- عنه.
تقرير برهان الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم
لكي نقرر الإشكال المطروح بدقَّة وإنصاف، لابد أولًا من تقرير برهان الإعجاز البلاغي للقرآن لكي نتصوّره بصورة مُحكَمة، ونستطيع إيجازه من خلال النقاط الخمس التالية:
1- ادَّعى النبي -ص- النبوّة، وهذا قطعيٌ ثابتٌ بالتواتر الضروري.
2- احتجَّ النبي -ص- على نبوَّته وصِدقِهِ ببلاغة القرآن الكريم، والشواهد على كون التحدي والاحتجاج بالبلاغة كثيرة، منها:
- الشاهد الأول: أن الصفة الوحيدة السارية في جميع سور القرآن الكريم هي البلاغة.
- الشاهد الثاني: أن تخصّص العرب وقوّتهم وافتخارهم كان في البلاغة فلا بد أن يتناسب تحدّيهم مع ما يتقنون.
- الشاهد الثالث: أن التحدي في البلاغة كان متعارفاً عندهم.
3- لم يتمكَّن أحد من معارضة دعوى النبي وتحدِّيه، وإلا لنُقل إلينا، لأن هذا حَدَثٌ مهمٌ وخطير من شأن المنافقين -مع كثرة وجودهم- والكفار أن يتناقلوه وينشروه.
ولم يكن الكفَّار والمنافقون مضطهدين ذاك الاضطهاد في تلك الأزمنة، فكانوا يناظرون المسلمين في عقائدهم، بل وصل إلينا كتاب([1]) "يوحنَّا الدمشقي" الذي عاش في القرن الأول الهجري، وكان يرى أن الإسلام بدعة مسيحيَّة، وطعن في الإسلام ومع ذلك وَصَل إلينا، (كما وصلت إلينا أبيات وأشعار جملة من شعراء الزنادقة والطاعنين في الإسلام).
ومن المعروف أن الشيعة أيضاً كانوا مضطهدين أيّ اضطهاد ومع ذلك وصل التراث إلينا ولله الحمد.
فمع تمكُّن الجميع من نقل تراثهم، كيف لم يتمكَّن أحد من المنافقين أو الكفار من نقل أي حادثة واحدة عن معارضة القرآن الكريم!، فلو كانت هناك معارضة حقيقيَّة لنُقلِت ووصلت إلينا (والحال أن هذه المعارضة -لو حدثت- لكانت كافية لإسقاط قوام دين الإسلام بكامله!)، ولمّا لم تَصِل = عَلِمنا أن المعارضة لم تحدث أبداً.
4- عدم معارضة الكفار للقرآن الكريم وبلاغته كاشف عن -وناشئ من- عَجزِهِم عن المعارضة لا لشيء آخر، فإذا وُجِدَ هناك داعٍ قويٍ لفعل فعل من الأفعال عند جماعةٍ كبيرةٍ من النّاس، مثل الداعي لعلاج وباء ومرض قاتل لا علاج موجود له، فإن لم يَفعل أي واحد من الناس هذا الفعل، كَشَفَ ذلك عن عجزِهم عن هذا الفعل.
والداعي كان قوياً جداً عند المشركين، فالدعوة الإسلاميَّة حقَّرَت وسفَّهَت اعتقادات وأماني المشركين وأفسدت تجارتهم، وكان لدى العرب حَمَـيـَّة جاهلية، فيكشف عدم معارضتهم عن عجزِهِم، لا أنهم لم يهتمُّوا للأمر فهم قاتَلوه بشتَّى الطُّرق.
5- عجز الكفَّار كاشفٌ عن خرق للعادة، وذلك عن طريق ضم أمرين:
- الأول: كونهم متخصصّين في اللغة العربيَّة والبلاغة، بل هي صنعتهم وفنّهم.
- الثاني: عدم مقاربتهم لمستوى بلاغة القرآن (فضلًا عن إتيانهم بمعارضة حقيقيَّة).
فمجرد تفوّق أحد المختصين على غيره ليس بالأمر الإعجازي، ولكن عجز جميع المختصين وأصحاب الفن واللغة عن مقاربة هذا المستوى يكشف عن وجود خرق للعادة.
وبهذه الأمور الخمسة يتبين أن العادة خُرقت تصديقاً لدعوى النبيّ -ص-، فيكون القرآن من الله تعالى كما ادَّعى، ويكون النبي -ص- نبياً."([2])
تقرير الإشكال على برهان الإعجاز البلاغي للقرآن
إذا اتضح البرهان، نستطيع الآن تقرير كلام المستشكل بقولنا على لسانه:
" إن هذا الدليل غايته إثبات أن القرآن معجز لمن كان عالمًا باللغة العربية وبلاغتها ودقائقها، فتَقتصِر دلالة هذا الدليل على المتخصّصين بالبلاغة في اللغة العربية.
وبعبارة أخرى، نستطيع صياغة الإشكال على هذا البرهان صياغةً منطقيَّة، بقولنا:
مقدمة (1): حجة الإعجاز البلاغي للقرآن لا تقوم إلا على من ينكشف له الإعجاز البلاغي للقرآن.
مقدمة (2): انكشاف الإعجاز البلاغي للقرآن يتوَقَّف على العلم باللغة العربية وبلاغتها ودقائقها.
النتيجة: حجَّة الإعجاز البلاغي للقرآن لا تقوم إلا على العالم باللغة العربية وبلاغتها ودقائقها.
وعليه: فأهل الصين والهند والغرب وكل ما لا يتقن العربيّة لا يصح الاحتجاج عليهم ببرهان الإعجاز البلاغي للقرآن.
بل نستطيع الترقِّي بالقول: إن حجة إعجاز القرآن البلاغي لا تقوم على غير العالم باللغة العربيّة وبلاغتها ودقائقها، من ثَمَّ فهي لا تقوم حتى على العربي العامّي العالم باللغة العربيّة ولكنه غير عالم بدقائق البلاغة العربيّة ووجوه الفصاحة وبديع الكلام والشعر والأدب، وحتى تقوم الحجة عليه، يجب عليه أن يتقن اللغة العربية أولًا، ويتقن بلاغتها ودقائقها ثانيًا، باطلاعه على أشعار العرب وأساليبهم الفنية البلاغية وبديع كلماتهم ويقارنها مع القرآن لكي ينكشف له الإعجاز، وإلا فلا تقوم حجة الإعجاز البلاغي في حق هذا العربي، ولا تقوم في حق غير العالم بالعربية من باب أولى."
هذا تمام تقرير الإشكال.
الجواب
المسلك المنهجي في نقض هذا الإشكال يتركّز في نقض المقدمة الثانية من الإشكال، وهي(انكشاف الإعجاز البلاغي للقرآن يتوقَّف على العلم باللغة العربية وبلاغتها ودقائقها)، ومن المعلوم أن نقض هذه المقدمة كافٍ لنقض النتيجة.
أمَّا نقض هذه المقدمة، فسيكون من خلال بيان عدم توَقُّف انكشاف الإعجاز البلاغي للقرآن على العلم باللغة العربيَّة وبلاغتها ودقائقها، وهذا سيكون من خلال بيان قاعدتين منهجيَّتين حول مسألة المعجز:
القاعدة الأولى: يكفي في قِيام حُجَّة الإعجاز على الإنسان = العِلم القطعي -الحاصل من مناشئ موضوعيَّة- بوقوع المعجز.
القاعدة الثانية: العلم القطعي الحاصل من مناشئ موضوعيَّة يشمل: التواتر والقرائن المفيدة للقطع ونتائج قاعدة (لو كان لبان) القطعية، وكل ما كان منشأً معرفيًا صحيحًا لحصول العلم القطعي، فلا يشترط أن يكون منشأ حصول هذا العلم هو الحس المباشر (المُعايَنَة)، فالتواتر أو القرائن المفيدة للعلم أو العلم الحاصل من قاعدة (لو كان لبان) -على فرض تماميّتها- كلها تصلُح لحصول هذا العلم كما هو مُـقرَّر في علم المعرفة.
ونتيجة هذا الكلام: أن حصول العلم بالمعجز كما يحصل عن طريق المعاينة الحسيَّة لحيثيّات الإعجاز البياني والبلاغي، فإنه يحصل كذلك من خلال النقل المتواتر والقرائن المفيدة للقطع ونتائج قاعدة (لو كان لبان) وكل ما كان منشأً صحيحًا مفيدًا للقطع في علم المعرفة.
تطبيق القاعدتين على مسألة المعاجز
نستطيع أن نضرب مثالًا جامعًا يُوَضِّح فائدة هاتيْن القاعدتيْن في مسألة المعاجز، فنقول:
لو افترضنا وجود ثلاثة أشخاص معاصرين للنبي موسى -عليه السلام-، الأول منهم أعمى لا يبصر، والثاني عامّي لا خبرة له بالسِّحر والخدع البصريّة، والثالث لم يحضر يوم الزينة ولم يَرَ ما فعله النبي موسى -عليه السلام- من خوارق ومعاجز أمام فرعون والسحرة والناس.
فهنا نسأل نفس السؤال: كيف ستقوم الحجَّة على هؤلاء الأشخاص الثلاثة عندما يأتي النبي موسى -عليه السلام- بالمعاجز؟
فالأول أعمى لا يرى، في حين أن معجزة النبي موسى -عليه السلام- حسيّة مرئية.
والثاني غير متخصص ولا يستطيع التفريق بين الخدع البصرية والمعجز الخارق للعادة.
والثالث لم يحضر ولم ير ما حصل.
فهنا سيكون جواب هؤلاء الثلاثة واحدًا، وهو أن الشهادات الحسيّة المتواترة الموجبة لحصول العلم التي ستصلهم = كافٍ لتصديقهم اليقيني بوقوع المعجز من قبل النبي موسى -عليه السلام-، حتى مع بقاء الأعمى على عماه، والجاهل على جهله، والغائب على غيابه.
تطبيق القاعدتين على الإعجاز البلاغي للقرآن
وتطبيقًا لما سبق على الإعجاز البلاغي للقرآن، نقول:
قد بلغنا العلمُ القطعي بعجزِ العرب عن معارضة القرآن الكريم رغم اشتداد دَواعِيهم إلى أقصاها إلى ذلك -كما تَم تقريره آنفًا-، وهذا كاشفٌ عن وقوع مُعجزة بلاغيّة خارقة لعادة البشر عند العرب قبل أكثر من 1400 عام، وقد وقعت هذه المعجزة على يد النبي محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي -صلى الله عليه وآله-.
والمعجز دال على اتصال النبي -صلى الله عليه وآله- بالله -تعالى- على ماهو مقرر في كتب أصول العقيدة.
فسواء قابلنا النبي -صلى الله عليه وآله- أم لم نقابله، وسواء درسنا البلاغة أم لم ندرسها، وسواء لمسنا الإعجاز البلاغي حسًا أم لم نلمسه (لدخول العجمة علينا وبُعدِنا عن اللغة العربية) = فإن ذلك لن يُغيِّر من حقيقة علمنا القطعي بوقوع المعجز على يديه -صلى الله عليه وآله- فيما يخص بلاغة القرآن الكريم، حتى ولو لم نعرف وجوه هذه البلاغة المعجزة.
أما من كان لديه إشكال في كيفيّة تحصيل اليقين بالتواتر، أو بالقرائن المفيدة للقطع، أو بكاشفيّة قاعدة (لو كان لبان) عن الواقع، فالنقاش معه ينتقل إلى هذه الكُبرَيات، وليس الكلام معه في هذا الإشكال الفرعي حول الإعجاز البلاغي للقرآن المتفرّع عن هذه الكُبرَيات، فينبغي التنبّه إلى هذا الأمر بدقة.
هذا ما أحببت بيانه حول نقض هذا الإشكال، وصلى الله على محمد وآل محمد الطيّبين الطاهرين،
والحمد لله كما هو أهله،
----------
([1]) يوحنا الدمشقي، الهرطقة المئة، وهو مطبوع.
([2]) محمد باقر الخياط، جواب سابق منشور على قناة الباحث على تويتر وتلغرام الباحث، بتصرّف طفيف.