الفرق الطبيعي بين الفلسفة والكلام
تقدم في جواب سابق تعريف علم الفلسفة (لاحظ الجواب المتعلق بذلك) وتعريف علم الكلام (لاحظ الجواب المتعلق بذلك)، ويمكن أن يُستنتج مما تقدم في هذين الجوابين أن الفرق بين علم الكلام والفلسفة الإلهية واضح وإن اشتركا في بعض المسائل؛ فإن نظر علم الكلام إلى تحقيق الواقع فيما يتعلق بدفع الضرر الديني المحتمل وتحقيق متعلق الطلب الشرعي، وبينما تنظر الفلسفة إلى تحقيق الواقع فيما يتعلق بالأمور العامة والإلهيات بالمعنى الأخص، وبهذا تشترك جملة من المسائل، ويمتاز كل علم عن الآخر بمسائل.
العمدة في الفرق بين العلمين
ويظهر من متابعة طبيعة مسائل العلمين أنه يمكن تقرير الاختلاف بينهما في أمرين:
الأمر الأول: أن علم الكلام يستهدف تحقيق المسائل بما هي دافعة للضرر الديني أو بما هي مطلوبة شرعا، والفلسفة تستهدف المسائل بما هي كاشفة عن الواقع بحيث تُضفي كمالا للناظر.
الأمر الثاني: أن علم الكلام لا يشترط في الدليل غير الصحة والتمام، فيمكن الاستدلال بالأدلة النقلية ويمكن بناء المعرفة على الاستقراء المفيد لليقين، بينما يُعتبر في الفلسفة كون الاستدلال برهانيا على ما تقرر في صناعة البرهان.
[أ] وقد التزم الفلاسفة في صناعة البرهان بعدم إفادة الدليل النقلي لليقين المطابق للواقع؛ فقد اعتبروا قول النبي من المقبولات.
قال ابن سينا "المقبولات، وهي آراء أوقع التصديق بها من قول من يوثق بصدقه فيما يقول؛ إما لأمر سماوي يختص به، أو لرأي وفكر قوي تميّز به، مثل اعتقادنا أمورا قبلناها عن أئمة الشرائع -عليهم السلام-"[1].
وقال "وأما المقبولات من جملة المأخوذات فهي آراء مأخوذة عن جماعة كثيرة من أهل التحصيل أو من نفر أو إمام يحسن به الظن"[2].
وقال النصير الطوسي في شرح كلام ابن سينا "والأول مقبولات، إما عن جماعة كما عن المشائين أن للفلك طبيعة خامسة، أو عن نفر كأصول الأرصاد عن أصحابها، أو عن نبي وإمام كالشرائع والسنن، أو عن حكيم كأحكام تنسب إلى بقراط كالطب، أو عن شاعر كأبيات تورد شواهد، أو تكون مقبولة من غير أن ينسب إلى مقبول عنه كالأمثال السائرة، ..."[3].
وقال هادي السبزواري "من تلك القضايا مقبولات، وهي مأخوذات من أي ممن كان نبيا أو حكيما ائتمن من الأولى بمعنى الذين كانوا أفاضل السلف أو الذين هم أماثل الخلف"[4].
وقال مهدي الآشتياني "القياس الخطابي الحاصل بالتأليف من المقبولات المأخوذة من الأنبياء والأولياء أي التمسك بآثار الأنبياء وأقوالهم الدالة على نبوته"[5].
ثم التزموا بأنه القياس المؤلف من المقبولات خطابي غير برهاني.
قال ابن سينا "القياسات البرهانية مؤلفة من المقدمات الواجب قبولها، فإن كانت ضرورية يستنتج منها الضروري على نحو ضرورتها، أو ممكنة يستنتج منها الممكن، والجدلية مؤلفة من المشهورات والتقريريات كانت واجبة أو ممكنة، والخطابية مؤلفة من المظنونات والمقبولات التي ليست بمشهورة وما يشبههما كيف كانت ولو كانت ممتنعة"[6].
وقال السهروردي "وأما الخطابيات فإنّها مركبة من مظنونات ومقبولات"[7].
[ب] والتزموا أيضا بعدم إمكان جريان البرهان في الجزئيات.
قال ابن سينا "مقدمات البرهان تكون صادقة يقينية ذاتية وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل كلية، وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما، فيكون أكثرية، وتكون عللا لوجود النتيجة، فتكون مناسبة"[8].
وقال السيد الطباطبائي "ولكنّ البحث عن الجزئيّات خارج من وسعنا، على أنّ البرهان لا يجري في الجزئيّ بما هو متغيّر زائل"[9].
ولا يخفى أن الالتزام بهذا موجب لاختلاف في المنهج الموجب للاختلاف في تحقيق المسألة، فلا يمكن أن تكون نبوّة نبي معيّن محلا للبرهان الفلسفي عندهم؛ لأنه من الجزئيات، ولا يمكن أن يُعتمد الدليل النقلي في إثبات الواقع عندهم؛ لأنه يرجع إلى المقبولات الخارجية عن البرهان.
التفريق بين نفس علمي الكلام والفلسفة وبين الاتصاف بالتكلم والتفلسف
تنبيه: في البين مسائل مقوّمة لاتصاف الناظر بكونه متكلما ومسائل مقومة لاتصاف الناظر بكونه فيلسوفا، فمن قال بقدرة الله بمعنى التمكن من الفعل والترك وحدوث العالم وصحة الاستدلال بالنصوص القطعية ونحو ذلك من ضروريات الإسلام التي خالف فيها الفلاسفة يوصف بأنه متكلم، ومن خالف في ذلك وذهب إلى أن واجب الوجود فاعل بمقتضى ذاته وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ونحو ذلك مما تميّز به واقع الفلاسفة فهو فيلسوف، وهذا في الحقيقة لا يرجع إلى الفرق بين الكلام والفلسفة من جهة طبيعة العلم، فالفرق بينهما من جهة طبيعة العلم تقدمت، وإنما يرجع ذلك إلى نوع اصطلاح متعلق بالنتائج المُختارة، فكما أن الفيلسوف المشائي لا يوصف بذلك إلا إذا تبنّى أصول الفلسفة المشائية وأن الفيلسوف الإشراقي لا يوصف بذلك إلا إذا تبنّى عمدة ما خالف فيه السهروردي ابن سينا كذلك الأمر في الاتصاف بالمتكلم والفيلسوف.
----------
[1] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، النجاة، ص115.
[2] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ص129.
[3] نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات، ج1 ص223.
[4] هادي بن مهدي السبزواري، شرح المنظومة، ج1 ص339.
[5] مهدي الآشتياني، التعليقة على شرح المنظومة، ص108.
[6] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ص165.
[7] يحيى بن حبش السهروردي، المشارع والمطارحات، ص678.
[8] الحسين بن عبيد الله بن سينا، النجاة، ص130-131.
أقول: ولاحظ ما ذكره في الفصل الثالث من المقالة الثانية من كتاب البرهان من الشفاء.
[9] محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، ج1 ص19.