تعاريف علم الكلام
إن لبيان حقيقة علم الكلام دورا مهما في بيان الغرض من العلم وقيمته، والملاحظ أنه لم تجرِ عادة المتقدمين من المتكلمين على تعريف علم الكلام، فلم أقف بعد الفحص على بيان منظّم لعلم الكلام في كلمات أهل القرون الأول والثاني والثالث والرابع والخامس من المتكلمين، بينما تصدى بعض المتأخرين لذلك، فقد عُرِّفَ علم الكلام من قبل تأخّر من المتكلمين ومن غيرهم بتعاريف متنوّعة، والذي وقفت عليه:
التعريف الأول: هو العلم الباحث عن الله وصفاته وأفعاله[1].
ويبدو أن هذا التعريف هو المشهور بين الإمامية في هذا العصر
التعريف الثاني: العلم الباحث عن الموجود من حيث هو موجود[2].
التعريف الثالث: العلم الباحث عن الموجود من حيث هو موجود على قانون الإسلام[3].
التعريف الرابع: العلم الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد على قانون الإسلام[4].
التعريف الخامس: العلم الباحث عن المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية[5]، وهذا بأن يكون معنى الإثبات هو التحصيل للنفس، وبتبع ذلك تُحصّل المسائل للغير[6].
وقريب من هذا التعريف تعريفه بأنه العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية[7]، ونحو ذلك[8].
التعريف السادس: علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه[9]، وهذا على أن يكون معنى إثبات العقائد الدينية هو إثباتها للغير لا تحقيقها للنفس[10].
تنبيه: عرّف بعضهم العلم بمثل التعريفين الخامس والسادس من دون تفسير معنى الإثبات من جهة كونه للنفس أو للغير[11].
ما يلاحظ على تعاريف علم الكلام
يُلاحظ على هذه التعاريف أنه لا تخلو من غلط أو قصور:
أما التعريف الأول فهو شامل لكل الوجود، وهذا لا يطابق واقع علم الكلام، ولا معنى له في نفسه.
وأما التعريف الثاني فهو عين تعريف الفلسفة، واختلاف العلمين مما لا ينبغي التأمل فيه.
وأما التعاريف الثالث والرابع والسادس فهي مشتملة على قيد لا معنى محصّلا له؛ فإنه لا معنى لتقييد علم من العلوم بالجري على قوانين دين[12] معيّن؛ فهذا مناقض لطبيعة العلم التي تبتني على كشف الواقع، على أن هذا خلاف الواقع؛ فإن علم الكلام يتكفل إثبات صحة الإسلام، وأي معنى لتقييد علم بمطابقة قوانين دين يتوقف إثبات صحة قوانينه على هذا العلم؟!
وأما التعريف الخامس فهو قريب، ولكن يبقى السؤال عن ضابط العقيدة الدينية، فكيف يُناط علم بالعقيدة الدينية مع توقف ثبوت الدين عليه؟!
وأما التعريف السادس فهو مخرج للعلم عن كونه علما كما تقدم في نقد التعريفين الثالث.
وبهذا يتبيّن القصور في هذه البيانات.
طبيعة علم الكلام المستكشفة بمتابعة العلم
وعند الرجوع إلى نفس علم الكلام نلاحظ التالي:
الملاحظة الأولى: أن علم الكلام يتعلق بالجانب المعرفي والعلمي، ولا تعلق له مباشرة بالأمور العملية، وبهذا ينفصل عن علوم الفقه والسلوك.
الملاحظة الثانية: أن علم الكلام يتعلق بشؤون الدين، فلا تعلق لعلم الكلام بما لا تعلق له بالدين من أمور واقعية، كشؤون الفيزياء والكيمياء والموجودات الغيبية التي لم يُتعرض لها في نصوص الشرع ونحو ذلك.
ولا ينافي هذا ما اشتمل عليه علم الكلام من مسائل اللطيف (= أحكام الجواهر والأعراض)؛ فإنها لا تمثّل مقصدا أصليا في علم الكلام، وإنما هي مسائل بُحثت مقدمةً لمسائل كلامية رئيسة أو بُحثَت لتخطئة اتجاه حاضر قد تترتب عليه اعتقادات فاسدة أو بُحثت استطرادا، وهذا ظاهر جدا عند ملاحظة مسائل اللطيف وكيفية ارتباطها بمسائل علم الكلام الرئيسة.
الملاحظة الثالثة: أن علم الكلام يشتمل على مسائل رئيسة لا تتغير بتغير الظروف كالمسائل المتعلقة بالإله وبثبوت الدين والنبوّات.
الملاحظة الرابعة: أن لعلم الكلام تعلّقا خاصا بالشبهات والإشكالات الواردة على الدين، ومن هنا كانت طبيعة علم الكلام متطوّرة بحسب ما يُتداول من شبهات وإشكالات، فيلاحظ نشوء مسائل زيادة الصفات وخلق القرآن والجبر والاختيار ونحو ذلك بحسب ما يُتداول من شبهات في المجتمع.
الملاحظة الخامسة: أن علم الكلام ذو طبيعة استدلالية تستهدف بلوغ الواقع والحق، نعم، لا يتقيد هذا العلم بشروط صناعة البرهان المقررة في المنطق الأرسطي؛ لتصحيحه الاستدلال النقلي واعتباره طريقا صحيحا للوصول إلى الواقع، وبكلمة: يعتمد العلم الدليل الموصل للواقع سواء أكان عقليا أم لا، ولا يعتمد الأدلة غير العقلية إلا بعد أن يقرر صحتها وصلاحيّتها للإيصال إلى الواقع.
وما يجري في بعض الكلمات من أن علم الكلام غير برهاني وأنه علم جدلي دعوى كاذبة لا تطابق الواقع (لاحظ جواب السؤال المتعلق بذلك)، ويكفي شاهدا على فساد هذه الدعوى تعلق علم الكلام بإثبات الدين الحق وعدم تكفّل غيره من العلوم ذلك، فكيف يكون إثبات هذا المطلب مبنيّا على الأخذ بمسلّمات الشرع؟!
الملاحظة السادسة: أنه لا يمكن إرجاع جميع المسائل الكلامية إلى مطلوبية تحقيقها في الدين؛ وذلك لوضوح تقدم بعض مسائل علم الكلام على إثبات الدين، فلا يمكن ربط المسائل المتقدمة على إثبات الدين بالدين كما هو واضح.
أقسام مسائل علم الكلام
بعد أن تبيّنت هذه الملاحظات وتمّت ملاحظة طبيعة علم الكلام = يمكن أن يُقال بأن علم الكلام يتعلق بتحقيق الأقسام التالية من المسائل:
القسم الأول: المسائل المعرفية التي يُحتمل في شأنها الضرر الناشئ من مخالفة الدين الحق، وهي المسائل الرئيسة في التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.
القسم الثاني: المسائل المعرفية التي ثبت وجوب تحصيلها في الشرع، كإثبات الملائكة وبعض مسائل الإمامة والمعاد.
القسم الثالث: المسائل المعرفية التي ثبت استحباب تحصيلها في الشرع، كالعلم بجملة من خصائص الأنبياء والأئمة.
القسم الرابع: المسائل المعرفية المتعلقة بشؤون العقائد الرئيسة -وإن لم تكن عقيدة رئيسة- والتي اختل الاعتقاد فيها من قبل مذهب وجماعة، كمسائل خلق القرآن وزيادة الصفات على الذات ونحو ذلك.
القسم الخامس: المسائل المعرفية التي تتعلق بدفع إشكال أو شبهة عن الدين.
التعريف المختار لعلم الكلام
وبهذا البيان يمكن تعريف علم الكلام بأنه المسائل المعرفية المرتبطة بدفع الضرر الديني المحتمل أو بطلب الشارع أو بتصحيح الاعتقاد أو بدفع الشبهة، ولا حاجة بعد ذلك إلى تكلّف موضوع لعلم الكلام ونحو ذلك.
----------
[1] لاحظ: فخر الدين الرازي، نهاية العقول، ج1 ص97؛ سيف الدين الآمدي، أبكار الأفكار، ج1 ص67-68؛ سراج الدين الأرموي، الرسالة الغراء في الفرق بين نوعي العلم الإلهي والكلام (ضمن مجموع ثلاث رسائل)، ص75؛ ميثم ابن ميثم البحراني، قواعد المرام، ص71-72؛ الحسن بن يوسف ابن المطهر الحلي، كشف المراد، ص23-24؛ مناهج اليقين، ص81؛ شمس الدين الإصفهاني، مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار، ج1 ص169-170.
وتعرض لهذا التعريف جماعة ولم يقبلوه، لاحظ: سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد ج1 ص179؛ علي بن محمد الجرجاني، شرح المواقف ج1 ص42.
[2] لاحظ: أبو حامد الغزالي، المستصفى في أصول الفقه، ج1 ص36-37.
[3] لم أقف على من التزم بهذا التعريف من المتكلمين، ولكن نسبه التفتازاني في شرح المقاصد ج1 ص176 والسيد الشريف في شرح المواقف ج1 ص47 إلى المتقدمين من المتكلمين، وقد اعتمد الأول على كلام الغزالي في المستصفى.
[4] لاحظ: شمس الدين السمرقندي، المعارف في شرح الصحائف، ج1 ص351-354؛ محمد جعفر الإسترآبادي، البراهين القاطعة، ج1 ص65-66.
[5] لاحظ: سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج1 ص173.
[6] لاحظ: سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج1 ص165-166.
[7] لاحظ: سعد الدين التفتازاني، تهذيب المنطق والكلام، ص221.
[8] لاحظ: محمد بن محمد بن عرفة المالكي، المختصر الشامل، ج1 ص217؛ كمال الدين بن الهمام، المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة (ضمن المسامرة في توضيح المسايرة)، ص74؛ محمد آصف المحسني، صراط الحق، ج1 ص14.
[9] لاحظ: علي بن محمد الجرجاني، شرح المواقف، ج1 ص34.
أقول: هذا التعريف للعضد الإيجي في المواقف ص7، وقوله "يقتدر معه على إثبات" يحتمل الاقتدار على الإثبات للنفس والإثبات للغير، وقد فسّره الجرجاني بالثاني، فلم أنسب التعريف إليه؛ لأن التعريف الخامس مبني على أن يكون الإثبات للغير.
[10] لاحظ: علي بن محمد الجرجاني، شرح المواقف، ج1 ص36.
[11] لاحظ: ساجقلي زاده، نشر الطوالع، ص34.
[12] أقدم من وجدته يذكر هذا القيد هو السيد شمس الدين السمرقندي (ت690) في المعارف ج1 ص351-352، قال "لمّا كان البحث في علم الكلام -أي في مسائله- عن ذات الله وصفاته وأسمائه وعن أحوال المخلوقات من الملائكة والأنبياء والأولياء والمطيعين والعاصين في الدنيا والآخرة وعن أحوال الجنة والنار وما يتبعهما على قانون الإسلام، والمراد بقانون الإسلام ما هو أصوله من كتاب الله -تعالى- وسنّة رسوله والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها؛ فإنه أيضا من أصول الإسلام، والفلاسفة أيضا يبحثون عن هذه الأشياء لكن على أصول الفلسفة من أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، والواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا، والإمكان صفة وجودية، والعود ممتنع، والوحي ونزول الملك محال، وسمّوه بالإلهي، فيكون الامتياز بين الكلام والإلهي أن الكلام على أصول هذه الشريعة، والإلهي على أصول الفلسفة، ...".
ويظهر من السعد التفتازاني (ت792) الجري على هذا البيان في شرح المقاصد من دون أن يتبنّاه، قال "فتميز الكلام عن الإلهي بأن البحث فيه إنما يكون على قانون الإسلام، أي الطريقة المعهودة المسماة بالدين والملة، والقواعد المعلومة قطعا من الكتاب والسنة والإجماع، مثل كون الواحد موجد [كذا] للكثير، وكون الملك نازلا من السماء، وكون العالم مسبوقا بالعدم، وفانيا بعد الوجود، إلى غير ذلك من القواعد التي يُقطع بها في الإسلام دون الفلسفة، وإلى هذا أشار من قال: الأصل في هذا العلم التمسك بالكتاب والسنة، أي التعلق بهما وكون مباحثه منتسبة إليهما جارية على قواعدهما على ما هو معنى انتساب العقائد إلى الدين، وقيل: المراد بقانون الإسلام أصوله من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها، وبالجملة فحاصله أن يحافظ في جميع المباحث على القواعد الشرعية ولا يخالف القطعيات منها جريا على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة، ...".