image
ما هي الفلسفة؟

أصل مفردة الفلسفة

مفردة "الفلسفة" ذات أصل يوناني، وأصلها على ما قيل "فيلا سوفيست"، وهي تعني حب الحكمة، ولا يراد بالفلسفة التي تكون علما حبَّ الحكمة، وإنما يُراد بها الحكمة، ولهذا جرت عادة كثير من النُّظّار العرب على إطلاق الحكمة على الفلسفة، وليس المراد بالحكمة معناها العرفي من وضع الشيء في موضعه، وإنما المراد بها معرفة الأشياء كما هي.

 

تقسيم الفلسفة بمعناها الأعم

وهي تنقسم عندهم إلى حكمة نظرية وحكمة عملية؛ فإن الحكمة إن كانت متعلقة بما هو خارج قدرة الإنسان واختياره فهي حكمة نظرية، وإن كانت متعلقة بما هو داخل في قدرة الإنسان فهي الحكمة العملية.

والحكمة النظرية تنقسم إلى العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي (= ما بعد الطبيعة)، فالعلم الطبيعي هو المتعلق بأحوال الجسم من حيث كونه قابلا للحركة والسكون، والعلم الرياضي هو المتعلق بأحوال الكم بأقسامه، وتدخل فيه أقسام العلوم الرياضية المعروفة من الحساب والهندسة وغيرها، والعلم الإلهي هو ما يتعلق بالموجود من حيث هو موجود بأن يبحث في الأشياء من دون يلحظها بما هي جسم أو كم.

والحكمة العملية تنقسم إلى علم الأخلاق وعلم تدبير المنزل وعلم السياسة، وعلم الأخلاق هو العلم المتعلق بأحوال نفس الإنسان مع بدنه الخاص به، وعلم تدبير المنزل هو العلم المتعلق بأحوال نفس الإنسان مع أهل منزله، وعلم السياسة هو العلم المتعلق بأحوال نفس الإنسان مع أهل العالم.

قال ابن سينا "إنّ العلوم الفلسفية ... تنقسم إلى النظرية وإلى العملية.

وقد أشير إلى الفرق بينهما، وذُكِر أنّ النظرية هي التي يُطلب فيها استكمال القوّة النظرية من النفس لحصول العقل بالفعل، وذلك بحصول العلم التصوّري والتصديقي بأمور ليست هي هي بأنّها أعمالنا وأحوالنا، فتكون الغاية فيها حصول رأي واعتقاد ليس رأيا واعتقادا في كيفية عمل أو كيفية مبدأ عمل من حيث هو مبدأ عمل.

وأنّ العملية هي التي يطلب فيها أوّلا استكمال القوّة النظرية بحصول العلم التصوّري والتصديقي بأمور هي هي بأنّها أعمالنا، ليحصل منها ثانيا استكمال القوّة العملية بالأخلاق.

وذكر أنّ النظرية منحصرة في أقسام ثلاثة هي: الطبيعية، والتعليمية، والإلهية.

وأنّ الطبيعية موضوعها الأجسام من جهة ما هي متحرّكة وساكنة، وبحثها عن العوارض التي تعرض لها بالذات من هذه الجهة.

وأنّ التعليمية موضوعها إمّا ما هو كم مجرّد عن المادّة بالذات، وإمّا ما هو ذو كمّ‌، والمبحوث عنه فيها أحوال تعرض للكمّ بما هو كمّ‌، ولا يؤخذ في حدودها نوع مادّة، ولا قوّة حركة.

وأنّ الإلهية تبحث عن الأمور المفارقة للمادّة بالقوام والحدّ"[1].

وقال صدر الدين الشيرازي "الحكمة استكمال النّفس الإنسانيّة بتحصيل ما عليه الوجود في نفسه، وما عليه الواجب ممّا ينبغي أن تكتسبه بعلمها لتصير عالما معقولا مضاهيا للعالم الموجود، وتستعدّ للسعادة القصوى الأخرويّة بحسب الطّاقة البشريّة.

وهي تنقسم بالقسمة الأولى إلى قسمين؛ لأنّها إن تعلّقت بالأمور الّتي إلينا أن نعلمها وليس إلينا أن نعملها = سمّيت حكمة نظريّة، وإن تعلّقت بالأمور التي إلينا أن نعلمها ونعملها = سميّت حكمة عمليّة.

وكلّ من الحكمتين ينحصر في أقسام ثلاثة:

أمّا النّظريّة فلأنّ ما لا يتعلّق بأعمالنا: 

[1] إمّا أن يحتاج في وجوده وحدوده -أي في الخارج والذهن- إلى المادّة، والعلم به طبيعيّ‌، وهو العلم الأسفل.

[2] وإمّا أن يحتاج في وجوده ولا يحتاج في حدوده إلى المادّة، والعلم به رياضيّ‌، وهو العلم الأوسط

[3] وإمّا أن لا يحتاج، لا في وجوده ولا في حدوده إلى المادّة، والعلم به إلهيّ‌، وهو العلم الأعلى.

 ...

وأمّا العمليّة فلأنّ ما يتعلّق بأعمالنا إن كان علما بالتّدبير الذي يختصّ بالشخص الواحد فهو علم الأخلاق، وإلاّ فهو علم تدبير المنزل إن كان علما بما لا يتمّ إلاّ بالاجتماع المنزليّ، وعلم السياسة إن كان علما بما لا يتمّ إلاّ بالاجتماع المدنيّ‌"[2].

 

الفلسفة بالمعنى الأخص

والعلم الذي قد يلتبس بعلم الكلام هو العلم الإلهي من علوم الحكمة النظرية، وهو الذي يُتعارف تسميته بالفلسفة في زماننا، ومن هنا لم يكن يهمنا في سياق البحوث المرتبطة بالعقيدة توضيح شأن بقية العلوم الفلسفية، وإنما المهم بيان حقيقة العلم الذي يُسمّى بالإلهي.

ويمكن إجمال ضابط العلم الإلهي بأنه العلم الباحث عن الموجود بما هو موجود، والمراد من العلم بالموجود بما هو موجود هو البحث عن أحوال الموجود العامة التي لا تثبت لموضوعاتها من جهة كونها أجساما أو كما، كأن يُبحث عن الوجوب والإمكان والعلية والمعلولية والوحدة والكثرة ونحو ذلك مما لا يتخصص بجسم أو كم.

قال ابن سينا "ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجود وجوهر، وعن الجسم بما هو جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما، وعن الأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي في مادة غير مادة الأجسام، وأنّها كيف تكون وأيّ نحو من الوجود يخصّها، فممّا يجب أن يجرد له بحث"[3].

وقال "فَبَيّنٌ أن هذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات، ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلاّ الموجود؛ فإن بعضها جواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى، وليس يمكن أن يعمها معنى محقق إلا حقيقة معنى الوجود.

وكذلك قد يوجد أيضا أمور يجب أن تتحدد وتتحقق في النفس، وهي مشتركة في العلوم، وليس ولا واحد من العلوم يتولى الكلام فيها، مثل الواحد بما هو واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد، وغير ذلك، فبعضها يستعملها استعمالا فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم في نحو وجودها، وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية، وليست من الأمور التي يكون وجودها إلا وجود الصفات للذوات، ولا أيضا هي من الصفات التي تكون لكل شيء، فيكون كل واحد منها مشتركا لكل شيء، ولا يجوز أن يختص أيضا بمقولة ولا يمكن أن يكون من عوارض شيء إلا الموجود بما هو موجود.

فظاهر لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما قلنا"[4].

وحاصل ما أفاد أن الحاجة داعية إلى تشكيل علم يبحث عن شؤون الأشياء العامة التي لا تتخصص بخصوصية معيّنة والتي لا تدخل في العلمين الرياضي والطبيعي، فكان العلم المُسمى بالإلهي.

قال "فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك، وما قبل ذلك التخصيص كالمبدأ، فنبحث عنه ونقرر حاله.

فيكون إذاً مسائل هذا العلم بعضها في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبادئ العلوم الجزئية"[5].

 

الخلاصة

والخلاصة أن العلم الإلهي (= الفلسفة) هو العلم الباحث عن الموجود بما هو موجود بحيث يبحث عن الأمور العامة لا تختص بموجود معيّن، ويبحث خصائص ما ثبتت له الأمور العامة من دون أن يتخصص البحث بالجسم من حيث هو جسم أو بالكم من هو كم.

 

تنبيهان

لم نتعرض في جواب هذا السؤال لحال الفلسفة الغربية وما يتعارف إطلاق الفلسفة عليه خارج سياقنا الإسلامي، وربما يتم التعرض لذلك في موضع آخر إن شاء الله.

ولم نتعرض أيضا إلى ما قد يورد على ضابط العلوم الفلسفية من إشكالات فنية، وسنتعرض لذلك في موضع آخر إن شاء الله.

 

----------

 

[1] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، الشفاء (الإلهيات)، ص4-5.

[2] صدر الدين الشيرازي، التعليق على شرح حكمة الإشراق، ج1 ص52-53.

[3] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، الشفاء (الإلهيات)، ص11.

[4] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، الشفاء (الإلهيات)، ص12-13.

[5] الحسين بن عبيد الله ابن سينا، الشفاء (الإلهيات)، ص15.

شارك عبر الرابط شارك على الواتس اب شارك على X أنشرها على الفيسبوك شارك على تليغرام

هل لديك سؤال؟ اسألنا!

اسأل الباحث