image
ما معنى أن وجه الإعجاز الصّرفة؟ ولماذا قال بها السيد المرتضى رحمه الله؟

 

تمهيد

أثبت العلماء إعجاز القرآن الكريم باستقلال عن وجه الإعجاز فيه، فلا يتوقف القول بإعجاز القرآن على تعيين وجه الإعجاز، وخلاصة مقدّمات الاستدلال:

١- ثبت أن النبي محمدا -صلى الله عليه وآله- ادّعى النبوّة.

٢- ثبت أن النبي احتجَّ بشيء من قبيل الكلام من جهة البلاغة والفصاحة وتحدّى به.

٣- لم يُعارضْ النبيَّ -صلى الله عليه وآله- أحدٌ.

٤- ثبت أن إحجام القوم عن المعارضة راجع لعجزهم لا لإعراضهم عن المعارضة.

٥- ثبت أن الذين أحجموا عن المعارضة على المرتبة العليا في البلاغة والبيان.

فإذا تقرّرت هذه المقدمات ثبت مجيء النبي -صلى الله عليه وآله- بالمعجز؛ فإن عجز المتخصص عن المعارضة كاشف عن وقوع خرق للعادة في مورد التحدّي، ولكن لا يتبيّن بهذا مركز الإعجاز ومحل انخراق العادة، فكما يحتمل وقوع الخرق في البلاغة نفسها يُحتمل وقوع  المعجز بتحقق مانع خارق للعادة يمنع من المعارضة، ومن هنا اختلفت المذاهب في وجه الإعجاز، فذهب البعض إلى أن الإعجاز من جهة البلاغة فقط، وذهب البعض إلى أنّه من جهة الصّرفة، وذهب البعض إلى أنه من جهة البلاغة والنّظم.

والمهم في مقام إثبات نبوّة النبي -صلى الله عليه وآله- هو إثبات إتيانه بالمعجز، وأمّا تعيين وجه الإعجاز -مع التّسليم بوقوع المعجز- فلا يضر؛ لأنّ التعذُّر عن الإتيان بمثله حاصل على أيِّ حال.

قال الشريف المرتضى "فأمّا الكلام في جهة إعجازه -هل هو صرف القوم عن معارضته على ما نذهب إليه، أو فرط الفصاحة التي فيه، أو ما يتضمّنه من الإخبار بالغائبات، أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرناها؟- فليس هذا موضع ذكرها؛ لأنّه لا خلاف بين من اتّفقوا عليه على أنّه معجز وعَلَمٌ دالٌّ على الصدق، وإنما اختلفوا في جهة إعجازه، والغرض في هذا الموضع بيان كونه معجزاً ودالاً على صدقه -عليه السلام-، وقد فعلناه…"[1].

 

مذهب الشريف المرتضى في الصّرفة

ذهب الشريفُ المُرتضى -رحمه الله تعالى- إلى أنّ الله -سبحانه وتعالى- يصرف عن كل من قصد مُعارضة القُرآن الكريم علوم البلاغة والفصاحة، وأما من لم يقصد المُعارضة فقد خُليّ بينه وبين علومه ومعارفه.

قال -رحمه الله- "والصّرفة على هذا إنّما كانت بأن يسلب الله -تعالى- كلَّ من رام المعارضة وفكّر في تكلّفها في الحال = العلومَ التي يتأتى معها مثل فصاحة القرآن وطريقته في النّظم.

وإذا لم يقصد المعارضة، وجرى على شاكلته في نظم الشّعر، ووصف الخطب، والتّصرف في ضروب الكلام، = خلّي بينه وبين علومه، ولم يُحَلْ بينه وبين معرفته، ولهذا لا نصيب في شيء من كلام العرب -منثوره ومنظومه- ما يُقارب القرآن في فصاحته، مع اختصاصه في النّظم بمثل طريقته"[2].

ولاشكّ أن نفس سلب بلاغة وفصاحة البليغ الفصيح حال رغبته معارضة القُرآن من الإعجاز الخارق للعادة؛ فإنّ البليغ الذي يجد نفسه عالِماً قادراً على الإتيان بالأبيات الشّعرية البليغة والخطب الفصيحة ثم لا يجد نفسه كذلك ما إن رامَ معارضة القرآن = مبتلى بأمر خارق للعادة، وهو سلب العلوم المبرر للإعجاز متى رام المعارضة[3].

 

سبب اختيار المرتضى القول بالصّرفة

يرى الشريف المرتضى -وهو رأي عامة العلماء أيضا- أنّ تحقّق الإعجاز مبني على وقوع التفاوت الكبير بين ما يأتي به صاحب المعجزة وبين ما يأتي به عامة البشر مما يُجانس المعجز؛ والوجه في ذلك أنه لولا هذا الشرط لم يكن من الممكن نفي احتمال كون ما جاء به صاحب المعجزة مجردَ نبوغٍ لا أكثر، ألا ترى أن الإنسان إذا ما ادّعى أنه قادر على حمل صخرةً تبلغ ٢٠٠ كجم، مع ملاحظة قدرة من سواه من النّاس عادةً على عدم تجاوز ال ١٥٠ كجم مثلاً، لم نحكم على فعله بأنه خارق للعادة؟ بخلاف ما إن حمل ما يتجاوز ال ٢٠٠٠ كجم، فإنّنا نحكم على هذا الفعل بالخارق للعادة، ولا نحتمل النّبوغ والتميّز في هكذا مورد.

فإذا تبيّن هذا نقول: يدّعي الشّريف المرتضى أنه عند مقارنة بلاغة العرب مع بلاغة بعض السور القصار من القرآن الكريم = لا نجد ذلك التفاوت الكبير بينهما وإن كان القرآن في الدرجة العالية من البلاغة، ورغم ذلك لم يعارض العربُ النبيَّ -صلى الله عليه وآله- بحيث يأتون بما يقارب القرآن وإن لم يُساوِه؛ فإن المجيء بمثل ذلك واف بغرضهم من التلبيس على الناس والتشكيك بنبوة النبي -صلى الله عليه وآله-، ولا تفسير مقبولاً لعدم معارضة العرب مع بلاغتهم وفصاحتهم إلاّ الصّرفة.

قال -رحمه الله- "والذّي يدل على ما اخترناه من صرف القوم عن المعارضة وأنّها لم تقع لهذا الوجه، لا لأنّ فصاحة القرآن خرقت العادة: أنّه لو كان القرآن خارقاً للعادة بفصاحته = لوجب أن يكون بينه وبين كل كلام يضاف إليه التفاوت الشّديد والشّاق البعيد، كما يكون بين ما هو معتاد وما هو خارق للعادة، فكان لا يشتبه فصل ما بينه وبين ما يضمّ إليه من أفصح كلام العرب على ما لا يشتبه عليه الفصل بين الكلاميين الفصيحين بينهما من التفاوت دون ما بين القرآن وغيره.

وقد علمنا أنّ أحدنا يفصل بلا روية ولا فكرة بين شعر الطبقة الأولى من الشعراء وبين المحدثين، ولا يحتاج في هذا الفصل إلى الرجوع إلى ذوي الغايات في علم الفصاحة، ومعلوم أنّه ليس في كلام فاضل الشّعراء وبين كلام مفضولهم القدر الذّي بين المعتاد والخارق للعادة، وإذا ثبت ذلك، وكنّا لا نفترق بين قصار سور المفصّل وبين أفصح شعر العرب وأبرع كلامها، ولا يظهر لنا التفاوت ما بين الكلامين الظهور الذي قد بيّنا، فما بالنا نميّز الفصل القليل ولا نميّز الكثير، ويرتفع الالتباس علينا مع التفاوت القليل ولا يرتفع مع التفاوت الشّديد"[4].

 

عدم اختصاص الشّريف المرتضى القول بالصرفة

ذهب جماعة من علماء الإمامية إلى القول بالصّرفة، كالشيخ المُفيد كما في أوائل المقالات، والشيخ أبي الصلاح الحلبي كما في تقريب المعارف[5]، والشيخ سديد الدّين الحمصي كما في المنقذ من التّقليد[6]، والمحقق الحلّي كما في المسلك في أصول الدّين؛ فلا ينبغي توهّم اختصاص المرتضى بهذا القول، نعم، لا يظهر من الشيخ المفيد تصوير الصرفة بالطريقة التي قرّرها المرتضى.

 ولا بأس بذكر نص المفيد والمحقق.

قال الشيخ المفيد "إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله -تعالى- لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي -صلى الله عليه وآله- بمثله في النظام[7] عند تحديه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله -وإن كان في مقدورهم- دليلاً على نبوته -صلى الله عليه وآله-، واللطف من الله مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز…"[8].

وقال المحقق الحلّي "واختار المرتضى الصّرفة وذكر أنّ العرب قادرة على مثل فصاحته وأسلوبه، غير أنّ الله -تعالى- صرفهم عن ذلك، ولعلّ هذا الوجه أشبه بالصواب"[9].

والحمد لله ربّ العالمين.

 

----------


[1] علي بن الحسين الموسوي، شرح جمل العلم، ص١٧٩.

[2] علي بن الحسين الموسوي، الموضح عن جهة إعجاز القرآن (الصّرفة)، ص٣٦، ولاحظ: الذّخيرة في علم الكلام، ص٣٨٠.

[3] من الجدير بالذكر أنّ الشريف المرتضى يؤكد على صحة وصف القرآن بالمعجز حتى مع القول بالصرفة، قال في الذخيرة ص٣٨٢ "فالمراد بالمعجز في عرفنا: ما له حظٌّ في الدّلالة على صدق من اختصّ به، والقرآن على مذهب الصّرفة بهذه الصّفة، فيجوز أن يوصف بأنه معجز".

[4] علي بن الحسين الموسوي، الذخيرة في علم الكلام، ص٣٧٩.

[5] أبو الصلاح الحلبي، تقريب المعارف، ص١٥٧.

[6] سديد الدين الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد، ج١ ص٤٦٠ وما بعدها.

[7] أي النظم.

[8] محمد بن محمد بن النعمان العكبري، أوائل المقالات، ص٦٣.

[9] جعفر بن الحسن الحلي، المسلك في أصول الدين، ص١٨٢.

شارك عبر الرابط شارك على الواتس اب شارك على X أنشرها على الفيسبوك شارك على تليغرام

هل لديك سؤال؟ اسألنا!

اسأل الباحث