ذهب الشيعة إلى أن غسل اليدين يبدأ من المرفقين، وهذا مخالف للقرآن، قال -تعالى- "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ"، فكيف يمكن التوجيه؟
الجواب:
قال -عز من قائل- "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"[1].
يرى الإمامية وجوب الابتداء بغسل اليد في الوضوء بالمرفق، وهذا قد يبدو منافيا لظاهر الآية الذي جعل المرفق غاية للغسل كما هو مقتضى حرف الجر "إلى" الدال على الانتهاء.
ويمكن الجواب عن ذلك ببيان أمرين:
الأمر الأول: لا دلالة في الآية على وجوب انتهاء الغسل بالمرفق
إن أُمِرَ زيد "اصبغ الحائط إلى النافذة" فهل يفهم زيد أنه يجب عليه أن يبدأ من الأرض إلى النافذة؟ ولو بدأ زيد من الأرض إلى النافذة هل يكون هذا أمراً طبيعيا؟ أم أن الطبيعي هو أن يبدأ من النافذة إلى الأرض كما هو المتعارف؟
لا ينبغي الإشكال في أن العرف يفهم من قولنا لزيد "اصبغ الحائط إلى النافذة" تحديدا للموضع المتعين على زيد صبغه، ولا يفهم منه تحديدا للبداية والنهاية له.
وكذا الكلام في الآية، والوجه في ذلك أن قوله -تعالى- "إِلَى الْمَرافِقِ" جار ومجرور، ويمكن أن يكون متعلقا بالغسل، ويمكن أن يكون متعلقا بنفس الأيدي التي يجب غسلها.
فعلى الأول يكون الغسل غسلا لليد إلى المرفق بحيث ينتهي الغسل بالمرفق متعلق بالغسل، وأن الغسل ينتهي بالمرفق، وعلى الثاني يكون الغسل لليد التي تنتهي بالمرفق، فالانتهاء على الأول انتهاء للغسل، والانتهاء على الثاني انتهاء لليد التي تُغسل.
والإشكال المطروح إنما يرد على الاحتمال الأول، ولا وجه للإشكال على الاحتمال الثاني؛ لأنه على الاحتمال الثاني يكون الانتهاء للمغسول نفسه بحيث يراد تعيين المقدار الذي يجب غسله من اليد، ولا دلالة في النص حينئذ على ابتداء الغسل وانتهائه.
ويُحتمل في قوله -تعالى- "فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ" أن يكون الجار والمجرور متعلقين بالأيدي، فالآية ليست صريحة في انتهاء الغسل بالمرفق.
بل هذا المحتمل هو الظاهر من الآية، ويمكن تقريب ذلك بنكتتين:
النكتة الأولى: أن شأن الأمور الامتدادية أن تحدد بـ "إلى" و"من"، وشأن التحديد أن يتعلق بنفس الأمر الامتدادي، وهذا فهمٌ عرفي، فمثلا: إن قلت لزيد "اكتب الكتاب من المقدمة إلى الفصل الثاني"، فحينئذ إن ابتدأ زيد الكتابة من نهاية الفصل الثاني إلى مقدمة الكتاب فإنه سيحقق النتيجة، لأن كتابة الكتاب أمر امتدادي فأي قيد تحديدي يأتي عليه -ولو بـ"من" أو "إلى"- = راجعٌ إلى بيان الحد، ولا يفهم من ذلك بيان موضع الابتداء بالفعل والانتهاء منه.
النكتة الثانية -وهي أضعف من القرينة الأولى-: أن طبيعة الغسل تكون من الداخل إلى الخارج وليس العكس، فليس من الطبيعي جر الماء باتجاه الجسم، فمع عدم التنصيص على خلاف الوضع الطبيعي ينصرف الفهم إلى الوضع الطبيعي بعد الفراغ عن وجود إجمال على الأقل، فطبيعة الغسل تقتضي السير بهذه الكيفية.
وبهذا يتبيّن أنه لا دلالة في الآية على وجوب ابتداء الغسل بالمرفق.
الأمر الثاني: الدليل على وجوب الابتداء بالمرفق
عمدة الإمامية في إيجاب الغسل من الأعلى إلى الأسفل هي السنة الشريفة، روى الكليني بسند صحيح "علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة وبكير، أنهما سألا أبا جعفر -عليه السلام- عن وضوء رسول الله -صلى الله عليه وآله-، فدعا بطست أو تور فيه ماء، فغمس يده اليمنى، فغرف بها غرفة، فصبها على وجهه، فغسل بها وجهه، ثم غمس كفَّه اليسرى، فغرف بها غرفة، فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق، ثم غمس كفه اليمنى، فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، وصنع بها مثل ما صنع باليمنى، ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه، لم يحدث لهما ماء جديدا، ثم قال: ولا يدخل أصابعه تحت الشراك.
قال: ثم قال: إن الله -عز وجل- يقول "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ"، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلا غسله، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلا غسله؛ لأن الله يقول "فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ".
ثم قال "وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ"، فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه.
قال: فقلنا أين الكعبان؟ قال: هاهنا -يعني المفصل دون عظم الساق-، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق، والكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله، فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ قال: نعم، إذا بالغت فيها، والثنتان تأتيان على ذلك كله"[2].
فالملاحظ في هذا الحديث ابتناء فعلِ الإمام -عليه السلام- على بيان المقدار الواجب؛ لأن الإمام لم يأت بالسنة النبوية كاملة، واكتفى بغرفة واحدة، ونبه أنه يكفي هذا المقدار المعين في المسح، ولا يخفى أن زرارة دقيقٌ في فعل الإمام -عليه السلام-، ونبّه أن الإمام لم يُحدث ماءً جديداً لمسح الرأس والرجلين، فيُفهم من قوله "فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق" بناء فعل الإمام على لزوم ذلك، وأن هذا هو الحد الواجب في الوضوء، وهذا دليل واحد، والأدلة على ذلك عديدة، واكتفينا بعرض إحداها.
فالحاصل أن الآية تحتمل احتمالين، رجحّنا احتمالا منهما باعتبار القرائن، وقلنا بوجوبه اعتماداً على السنة النبوية الشريفة التي نقلها لنا أهل البيت -عليهم السلام-، فالتزمنا بها، ولا مخالفة في ذلك مع القرآن الكريم.
----------
[1] المائدة: ١٠٨
[2] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج5 ص82 ح3925.
وقد نقلت الحديث كاملا للطافته.