جاء في الأخبار أن الله -تعالى- يُنزل بركاته ورحمته على سائر الخلق بأهل البيت -عليهم السلام-، جاء في الزيارة الجامعة "بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم يُنزل الغيث، وبكم يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينفّس الهمّ ويكشف الضرّ"[1].
وهذا المضمون ثابت عنهم -عليهم السلام- فقد روى الصدوق بسند صحيح "محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: إن لله -عز وجل- خلقا من رحمته، خلقهم من نوره ورحمته من رحمته لرحمته، فهم عين الله الناظرة، وأذنه السامعة ولسانه الناطق في خلقه بإذنه، وأمناؤه على ما أنزل من عذر أو نذر أو حجة، فبهم يمحو السيئات، وبهم يدفع الضيم، وبهم ينزل الرحمة، وبهم يحيي ميتا، وبهم يميت حيا، وبهم يبتلي خلقه، وبهم يقضي في خلقه قضيته، قلت: جعلت فداك من هؤلاء؟ قال: الأوصياء"[2].
وحتى نفهم المراد من العبارة الواردة في الزيارة يجب الالتفات إلى أن الباء في هذه الأخبار تحتمل معنيين:
المعنى الأول: الآلة؛ وهو كقولنا:
ضرب زيد بالعصا.
كتب زيد بالقلم.
فهنا العصا والقلم آلة وواسطة في إيصال أثر الضرب والكتابة.
المعنى الثاني: هو الشيء الذي بسببه يفعل الفاعل الفعل، وهو كما في هذه الأمثلة:
قال -تعالى- "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ"[3].
قال -تعالى- " وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"[4].
قال -تعالى- "وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ"[5].
وروى البرقي بسند صحيح "هشام، قال: قال أبو عبد الله -عليه السلام-: لما خلق الله العقل قال له أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وعليك أثيب"[6].
فنلاحظ هنا أن ما دخلت عليه الباء في هذه الأمثلة ليست آلة في الفعل، وإنما هي أسباب لأجلها يفعل الله هذه الأفعال.
ففي المثال الأول كان السبب الذي لأجله يعاقب الله -تعالى- آل فرعون هو صدور الذنوب منهم، وفي المثال الثاني كان السبب الذي لأجله يثيب الله المؤمنين هي أعمالهم الصالحة، وفي المثال الثالث كان السبب الذي لأجله خلق الله السماوات والأرض هو الحق بمعنى العاقبة الحسنة المقابلة للغو واللهو والباطل، وفي المثال الرابع كان السبب الذي يبرّر إثابة الله للإنسان ومعاقبته هو العقل الذي وهبه إياه.
فالباء في هذه الأمثلة ليست للآلة وإنما هي لبيان السبب والمقتضي والمبرر لئن يفعل الله -تعالى- هذه الأفعال.
وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الباء في هذه الأخبار قد استعملت بالمعنى الثاني؛ فيكون المراد من تلك الأخبار أن الله -تعالى- يُنزل بركاته ويدفع عذابه عن الخلق بسبب وجود أهل البيت -عليهم السلام- في الأرض لا أنهم واسطة وآلة في أفعال الله -تعالى-؛ ويُستظهر هذا المعنى من هذه الأخبار:
الخبر الأول: روى الكليني بسند صحيح "هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: قال الله -عز وجل-: ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن، ولو لم يكن من خلقي في الأرض فيما بين المشرق والمغرب إلا مؤمن واحد مع إمام عادل لاستغنيت بعبادتهما عن جميع ما خلقت في أرضي، ولقامت سبع سماوات وأرضين بهما، ولجعلت لهما من إيمانهما أُنسا لا يحتاجان إلى أنس سواهما".[7]
ولمّا كان المؤمن سببا لأجله يحفظ الله السماوات والأرضين وليس واسطة في الإيجاد = كان الإمام أيضا كذلك؛ لأن المؤمن والإمام قد ذُكرا مقرونين في هذا الخبر.
الخبر الثاني: روى صاحب الاختصاص بسنده "عن أبي جعفر -عليه السلام- قال: قال أمير المؤمنين -عليه السلام-: خُلقت الأرض لسبعة بهم ترزقون وبهم تنصرون وبهم تمطرون، منهم: سلمان الفارسي، والمقداد، وأبو ذر، وعمار، وحذيفة، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- يقول: وأنا إمامهم، وهم الذين صلوا على فاطمة -صلوات الله عليها-"[8].
ولمّا لم يُحتمل أن يكون هؤلاء المذكورون واسطة في الإيجاد= تَعيّن كون الباء في هذا الاستعمال للسبب وليس للآلة.
الخبر الثالث: روى الصدوق بسنده "عن أبي جعفر -عليه السلام-، قال: سمعته يقول: لو بقيت الأرض يوما بلا إمام منا لساخت بأهلها، ولعذبهم الله بأشد عذابه، إن الله -تبارك وتعالى- جعلنا حجة في أرضه، وأمانا في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم ثم لا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثم يفعل الله ما شاء وأحب".[9]
فهذا الخبر يبيّن أنه لأجل وجود أهل البيت -عليهم السلام- في الأرض دَفَعَ الله العذاب عن أهل الأرض، فالله -تعالى- لا يعذّب أهل الأرض مع إمكان ذلك بسبب وجود أهل البيت -عليه السلام-.
الخبر الرابع: روى الكليني بسنده "ابن عرفة، عن أبي الحسن -عليه السلام-، قال: إن لله -عز وجل- في كل يوم وليلة مناديا ينادي: مهلا مهلا عباد الله عن معاصي الله، فلولا بهائم رتّع، وصبية رضّع، وشيوخ ركّع، لصبّ عليكم العذاب صبّا، ترضون به رضا"[10].
وهذا الخبر يدلّ على أن الله -تعالى- يدفع العذاب بسبب وجود من لا يستحقّ العقاب في الأرض، وليس معنى ذلك أن المذكورين يشكّلون وسائط في تأثير الله -تعالى-.
الخبر الخامس: روى النعماني بسند صحيح "عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد -عليهما السلام- في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة -عليهم السلام- وصفاتهم، فقال :إن الله -تعالى- أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبيه -صلى الله عليه وآله- عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح لهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من أمة محمد -صلى الله عليه وآله- واجب حق إمامه وجد حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، إن الله -تعالى- نصب الإمام عَلَما لخلقه، وجعله حجة على أهل طاعته، ألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبار، يمد بسبب إلى السماء، لا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله الأعمال للعباد إلا بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من مشكلات الدجى، ومعميات السنن، ومشتبهات الفتن ، فلم يزل الله يختارهم لخلقة من ولد الحسين -عليه السلام- من عقب كل إمام، فيصطفيهم كذلك ويجتبيهم، ويرضى بهم لخلقه، ويرتضيهم لنفسه، كلما مضى منهم إمام نصب -عز وجل- لخلقه إماما علما بينا، وهاديا منيرا، وإماما قيما، وحجة عالما، أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه يدين بهديهم العباد، وتستهل بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد، جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها".[11]
وهذا الخبر يدلّ أن الله -تعالى- ببركة وجود إمام من أهل البيت -عليهم السلام- = يُنزل علينا الخيرات ويتفضّل علينا بسائر أنواع النّعم، فالفعل فعل الله المتمكن من فعلا قبضا وبسطا، ولكنّه يفعله بملاك بركة أهل البيت -عليهم السلام- من دون أن يعني ذلك تأثير نفس أهل البيت قبضا وبسطا في إيصال الخير.
فتحصّل أن المراد من قول الإمام -عليه السلام- في الزيارة الجامعة "بكم يُنزل الغيث، وبكم يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه" هو هذا المعنى المُشار إليه في تلك الأخبار، فالباء بمعنى المبرّر والمصحح للفعل الإلهي مع كون الفعل فعل الله -تعالى-، فلأجل وجود أهل البيت -عليهم السلام- أنزل الله الغيث، وبسبب وجودهم أمسك السماء، ولا دلالة في ذلك على استناد هذه الأفعال الإلهية لأهل البيت؛ والوجه في هذا الحمل هو ملاحظة تكرّر هذا المعنى في الأخبار من ملاحظة شأنية أخبار العترة -عليهم السلام- لتكرار المطلب العقدي وتثبيته بأساليب مختلفة.
وأما واسطة الفيض في الفلسفة فهي تُشير إلى أحد المطالب الفلسفية الرئيسة؛ فالفلاسفة يرون أن إيجاد الله -تعالى- للأشياء يكون بالفيض لا بمحض الفعل الاختياري، وهذا الفيض يمرّ عبر وسائط ليصل إلى كل الموجودات؛ وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى كون أهل البيت -عليهم السلام- وسائط للفيض الإلهي.
ولفهم هذا المطلب إجمالا ينبغي الالتفات إلى مقدّمتين فلسفيتين:
1- أن واجب الوجوب فاعل بمقتضى ذاته؛ أي أن الفعل واجب الوجود غير منفك عنه، فإيجاد الواجب للأشياء هو بمقتضى ذاته.
2- أن الواجب واحد من جميع الجهات.
3- أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
ونتيجة لهذه المقدمات ذَكَر الفلاسفة أن الواجب صدر عنه -بمقتضى ذاته- وجود واحد وهو العقل الأول (أو الحقيقة المحمدية كما عبّر بعضهم)؛ وهذا العقل الأول صارت فيه ثلاث حيثيات: الأولى كونه واجبا بالغير، والثانية كونه موجودا ممكنا، والثالثة كونه ماهية، وهذا العقل صدر عنه لتعدد الجهات فيه عقلٌ ثان وفلكٌ أول ونفسٌ فلكية أولى، وهكذا تتسلسل الوسائط في الإيجاد وتكثّرها يتبرر صدور الكثرة عن الواجب.
فتحصّل أن واسطة الفيض هو ما يكون واسطة في إيصال أثر الواجب لما بعده، من غير أن يُنسب التأثير حقيقة لتلك الواسطة؛ بل يكون التأثير والإيجاد من الواجب حصرا، ودور الواسطة هو إيصال هذا الأثر وتصحيح صدور الكثرة عن الواجب؛ وقد يُطلقون على الواسطة العلة المُعدّة أو ما به الوجود، وأما الواجب الذي يُنسب إليه التأثير حقيقة فيُطلقون عليه ما منه الوجود.
وننقل ها هنا نصّين ليتّضح مفهوم وساطة الفيض بنحو أكثر تفصيلا بالنسبة للقارئ.
قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء "اعلم أولا أنّ المراد من العقول هي الموجودات المقدسة والجواهر الخالصة، المنزهة من شوب المادة والمادي والجسم والجسماني، ومعروف أنّ العقل هو الجوهر المجرد في ذاته وفي فعله، واتفق الحكماء بالأدلة والبراهين المحكمة، كقاعدة إمكان الأشرف وغيرها: أنّ العقول أول الموجودات، ومبدأ الصوادر، ووسائط الفيض.
و ذهب المشّاؤون -وهم طائفة من الحكماء ورئيسهم المعلم الأول أرسطو -إلى حصر العقول الكلية في العشرة، وليس المراد الكلي المفهومي، بل الكلي الوجودي، ويسمّونه على اصطلاح الحكماء بربّ النوع.
و بيان ذلك إجمالا: هو أنّ بحكم القاعدة المبرهنة في محلها وهي أنّ «الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد» لا بد وأن يكون الصادر الأول من الواحد البسيط من جميع الجهات هو الواحد، ولما كان الحق -سبحانه- واحدا من جميع الجهات، وبسيطا من كل الحيثيات، فلا بد وأن يكون الصادر الأول من ذاته الأحدية العقل الأول، والأحاديث الشريفة عند الفريقين متواترة، وفي كتاب «الكافي» وغيره من الجوامع الحديثية مروية من أنّ أول[12] ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل... الخ
وهذا العقل الأول عبارة عن مرتبة العقل المحمدي -صلّى اللّه عليه وآله-، ولهذه الجهة قال -صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ أول ما خلق الله نوري[13]، فلا تنافي بين هذين الحديثين، وهذا العقل الأول هو الذي يعبّر عنه في لسان الشرع المقدس بالعبارات المختلفة، فهو العقل الأول، والحقيقة المحمدية، ونور محمد وآله، ورحمته التي وسعت كل شيء، وأمثال ذلك، وهذا العقل وإن كان واحدا ولم يصدر إلاّ عن الواحد لكن لما كان ممكنا ومعلولا وحادثا ومتعدد الجهات والحيثيات اعتبر فيه ثلاث جهات:
الأولى: من حيث نسبته إلى علته يعني وجوبه الغيري.
و الثانية: من حيث ذاته ووجوده يعني وجوده الإمكاني.
و الثالثة: من حيث ماهيته وحقيقته يعني ماهيته الإمكانية.
فتحصل فيه ثلاثة معان وجهات: وجوب، ووجود، وماهية، وبعبارة أخرى: نور، وظلّ، وظلمة.
فمن حيث تعقّله أو تعلقه بمبدئه صدر منه العقل الثاني، ونال فيض الوجود، ومن حيث تعقّله لوجود ذاته خلق نفس الفلك الأعلى، ومن حيث تعقله لماهيته وحدّه وإمكانه -وهذه الثلاثة عبارة عن معنى واحد- خلق جسم الفلك الأعلى.
و هكذا الكلام في العقل الثاني، وتلك الجهات والحيثيات الثلاثة فيه أيضا موجودة، فمن الجهة الأولى صدر العقل الثالث، ومن الثانية خلقت النفس الفلكية للفلك الثاني، ومن الجهة الثالثة خلق جسم الفلك الثاني، وهكذا، فهلم جرا إلى العقل العاشر وهو آخر العقول، ويقال له: العقل الفعال، وهو من جهة بُعده عن مبدئه الأصلي وعلته الأولى ظهر فيه الضعف، ومن جهة أنه لما لم يكن فيه صلاحية الفيض لم يصدر عنه عقل أيضا، ولكن بوجوده الإمكاني أفيضت هيولى العوالم العنصرية من فلك القمر وما هو في ضمنه، وبوجوبه الغيري ووجوده أفيضت النفوس والصور على تلك الهيولى، ولهذا قال بعض الحكماء:
إنه فوّض للعقل الفعال ربوبية عالم العناصر، فصدر من كل واحد من تلك العقول عقل واحد وفلك واحد ونفس فلكية حتى تمّت العقول العشرة والأفلاك التسعة الحية، بمعنى أن لها نفسا مدركة عالمة.
و بعض كلمات أرباب العصمة والطهارة -سلام الله عليهم- دالة على حياة الأفلاك بهذا المعنى، فمن تأمّل في دعاء رؤية الهلال من أدعية زبور آل محمد -صلّى الله عليه وآله- -أعني الصحيفة السجادية- ظهر له هذا المطلب غاية الظهور والوضوح.
وليعلم أنّ الحكماء شرحوا هذه القضايا ونظموا هذه البيانات ونضدوها كنضد الدرر، ولكن لم يذهبوا -معاذ اللّه- إلى أنّ العقل الأول خالق للعقل الثاني والفلك الأول حتى يقال في حقهم: إنهم يجعلون شريكا للحق -جل وعلا- في الخلق والإيجاد، حاشاهم أن يقولوا هذا، ولم يتفوّه أحد منهم بهذه المقالة الفاسدة والكلمة الفاضحة، كيف وجميع طوائف الحكماء اتّفقوا على أنه «لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله»، بل مرادهم أنّ كل عقل بالنسبة إلى الآخر واسطة للفيض ومعدّ للوجود له، بمعنى أنّ الحق -جل وعلا- يفيض الوجود إلى العقل الأول ابتداء، وإلى العقل الثاني والفلك الأول ثانيا وبالواسطة، كما أنكم تقولون في محاوراتكم: إنّ من الأب والأم خلق الولد، والوالد علة لوجود الولد، وليس المراد -والعياذ باللّه- أنّ الوالد خالق للولد أو مفيض الوجود للولد، بل لا خالق ولا موجد إلا الله -تبارك وتعالى-، ولكنّ الشخص الذي هو عبارة عن زيد بن عمرو وهند، لا يكون موجودا بهذه الخصوصيات إلاّ بعد وجود عمرو وهند.
وهكذا العقل الثاني وجود واحد في مرتبة خاصة لا يكون موجودا بهذه المرتبة من الخصوصية إلا بعد العقل الأول، فالعقل الأول له نحو إعداد لوجود العقل الثاني، كمعدّية وجود الآباء والأجداد في وجودي ووجودك".[14]
وقال السيد محمد حسين الطباطبائي "قد تحقق في مباحث العلة والمعلول أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، ولما كان الواجب -تعالى- واحدا بسيطا من كل وجه -لا تتسرب إليه جهة كثرة لا عقلية ولا خارجية- واجدا لكل كمال وجودي وجدانا تفصيليا في عين الاجمال = لا يُفيض إلا وجودا واحدا بسيطا له كل كمال وجودي، لمكان المسانخة بين العلة والمعلول، له الفعلية التامة من كل جهة والتنزه عن القوة والاستعداد، غير أنه وجود ظلي للوجود الواجبي فقير إليه متقوم به غير مستقل دونه"[15].
وقال "فتبين أن الصادر الأول الذي يصدر من الواجب -تعالى- عقل واحد هو أشرف موجود ممكن، وأنه نوع منحصر في فرد، وإذ كان أشرف وأقدم في الوجود فهو علة لما دونه وواسطة في الايجاد، وأن فيه أكثر من جهة واحدة، يصح صدور الكثير منه، لكن الجهات الكثيرة التي فيه لا تبلغ حدا يصح به صدور ما دون النشأة العقلية بما فيه من الكثرة البالغة، فمن الواجب أن يترتب صدور العقول نزولا إلى حد يحصل فيه من الجهات عدد يكافئ الكثرة التي في النشأة التي بعد العقل[16]".
فبعد معرفة هذا المصطلح الذي يتكئ على هاتين القاعدتين الفلسفيتين -أن الواجب فاعل بمقتضى ذاته وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد- = تنبغي قراءة كلمات العلماء بحذر وتجنّب حمل كلمات الجميع على هذا المطلب؛ إذ لا تصح نسبة القول بوساطة الفيض بالمعنى الفلسفي لمن لا يلتزم بهذه المباني وإن عبّر بوساطة الفيض.
وفي البين بعض من استعمل تعبير "الوساطة في الفيض" بمعنى ما لأجله الفعل، لا بمعنى الواسطة في إيصال أثر الواجب (ما به الوجود).
قال العلامة المجلسي "فاعلم أن أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبي والأئمة -عليهم السلام- في أخبارنا المتواترة على وجه آخر؛ فإنهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدم في الخلق لأرواحهم، إما على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة، وأيضا أثبتوا لها التوسط في الايجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الاخبار كونهم -عليهم السلام- علة غائية لجميع المخلوقات، وأنه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الاخبار أن جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسطهم تفيض على سائر الخلق حتى الملائكة والأنبياء.
والحاصل أنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم -عليهم السلام- الوسائل بين الخلق وبين الحق في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق، فكلما يكون التوسل بهم والاذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله أكثر.
ولما سلكوا سبيل الرياضات والتفكرات مستبدين بآراءهم على غير قانون الشريعة المقدسة ظهرت عليهم حقيقة هذا الامر ملبسا مشتبها، فاخطؤوا في ذلك، وأثبتوا عقولا وتكلموا في ذلك فضولا"[17].
وقال الشيخ محمد علي الأراكي "وأما العقل المستقل فقد استدل بما دل منه على وجوب شكر المنعم بعد معرفة أنهم -عليهم السلام- أولياء النعم، ولا يخفى أن معنى كونهم -عليهم السلام- أولياء النعم ليس ما يوهمه بعض قواعد المعقول من ترتّب العقول وقاعدة إمكان الأشرف من كونهم وسائط الفيض بمعنى أنهم معطو الوجود والحياة والعلم والمال والصحة والولد والزوجة والوجه والاعتبار وغير ذلك من نعم الدنيا والآخرة حتى ينطبق على قاعدة أن معطي الشيء لا يكون فاقدا له، فحيث إنهم معطون لهذه الأشياء فهم مالكون لها؛ لأن هذا قد انعقد ضرورة المتشرعة على خلافه، نعم ما ثبت من كونهم -عليهم السلام- وسائط الفيض بمعنى أنهم علله الغائية"[18].
وقال الميرزا جواد التبريزي "إن خلق الدنيا ومن فيها وكذا خلق الآخرة ومن فيها وما فيها كله من فعل الله -عز وجل- ومشيئته، وبما أن الله -سبحانه وتعالى- حكيم لا يخلق شيئا عبثا، فالغرض من خلق الدنيا وما فيها هو أن يعرف الناس ربهم، ويصلوا إلى كمالاتهم، بإطاعة الله -سبحانه وتعالى-، والتقرب إليه.
وهذا يقتضي اللطف من الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء والأئمة -عليهم السلام- ليأخذ الناس منهم سبيل الاهتداء.
وبما أن الحكمة هي ما ذُكِر في الخلق حيث يفصح عنه قوله -تعالى- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وبضميمة قوله سبحانه "وخلق لكم ما في الأرض جميعا" يُعلم أن الغاية من خلق الإنس والجن هي خلق الذين يعرفون الله سبحانه ويعبدونه ويهتدون بالهدى والسابقون على ذلك في علم الله -سبحانه- الذين يعيشون في الدنيا وسيلة لكسب رضا ربهم، والتفاني في رضاه = هم الأنبياء والأوصياء والأئمة -سلام الله عليهم أجمعين-.
والسابقون في هذه المرتبة هم نبينا محمد والأئمة الأطهار -صلى الله عليهم أجمعين- من بعده.
وبذلك يصح القول إنهم علة غائية لخلق العباد، لا بمعنى أن الخالق يحتاج إلى الغاية، بل لأن إفاضة فيض الوجود بسبب ما سبق في علمه أنهم السابقون الكاملون في الغرض والغاية من الفيض، والله العالم"[19].
وبهذا يتبيّن أنه لا أساس في الأخبار لفكرة وساطة الفيض بالمعنى الفلسفي، وأنه ثبت في بيانات الكتاب والعترة أن للأنبياء والأئمة -عليهم السلام- دخلا في أفعال الله -تعالى- بمعنى أن الله يفعل أفعالا ويترك أفعالا باعتبار وجودهم وكمالهم من دون أن يتوقّف الفعل الإلهي عليهم، وقد ثبت ذلك في درجات أدنى لغير الأنبياء والأئمة -عليهم السلام- من المؤمنين الصالحين ولكن مع تفاوت في المرتبة.
والحمد لله رب العالمين.
----------
[1] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كتاب من لا يحضره الفقيه ج2 ص615.
[2] محمد بن علي ابن بابويه القمي، التوحيد، ص167.
[3] آل عمران:11.
[4] الأعراف:43.
[5] الجاثية:22.
[6] أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج1 ص192.
[7] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج4 ص69.
[8] الاختصاص، ص5.
[9] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كمال الدين وتمام النعمة، ج1 ص232.
[10] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج3 ص683.
[11] محمد بن أبي زينب النعماني، الغيبة، ص230.
[12] ليس في الكافي ولا في غيره من الكتب المعتبرة مثل هذا التعبير.
[13] لم نقف على هذا الحديث في مصدر معتبر.
[14] محمد حسين كاشف الغطاء، الفردوس الأعلى ج1 ص74.
[15] محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، ص381.
[16] محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، ص382.
[17] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج1 ص104.
[18] محمد علي الأراكي، كتاب البيع، ج٢ ص١٥-١٦
[19] جواد بن علي التبريزي، صراط النجاة، ج3 ص473.