المعروف بين الأعلام أن علة غيبة الإمام المهدي -عليه السلام- هي دفع الضرر عن نفسه الذي قد يتحقق بسبب ظهوره.
1- قال أبو سهل إسماعيل بن علي بن سهل بن أبي إسحاق بن نوبخت (ت311) على ما في كمال الدين "وأما إذا استتر الإمام للخوف على نفسه بأمر الله -عز وجل- وكان له سبب معروف متصل به وكانت [كذا، والظاهر أن الصحيح "كانت"] الحجة قائمة إذ كانت عينُه موجودة في العالم وبابه وسببه معروفان، وإنما عُدِم إفتاؤه وأمره ونهيه ظاهرا، وليس في ذلك بطلان للحجة ..."[1].
2- وقال محمد بن عبد الرحمن بن قبة (توفي أوائل القرن الرابع الهجري) على ما في كمال الدين "وإنما قيل "غائب" لغيبته عن أعدائه وعمّن لا يوثق بكتمانه من أوليائه"[2].
3- وقال علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (ت329) "فلأجل الحاجة إلى الغيبة اتسعت الأخبار، ولمعاني التقية والمدافعة عن الأنفس اختلفت الروايات، وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، ولولا التقية والخوف لما حار أحد، ولا اختلف اثنان، ولا خرج شيء من معالم دين الله- تعالى- إلا على كلمة لا تختلف وحرف لا يشتبه"[3].
4- وقال الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي (ت381) "وهذه الغيبة التي للإمام -عليه السلام- هي من قبل أعداء الله -تعالى-، ... وفي غيبة الإمام -عليه السلام- عبادة مخلصة لم تكن في تلك الغيبة [يقصد غيبة آدم -عليه السلام-]، وذلك أن الإمام الغائب مقموع مقهور مزاحم في حقه..."[4].
5- وقال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري (ت413) "الإمام عندي في تقية من أعدائه لا محالة وهو أيضا في تقية من كثير من الجاهلين به، ... ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن، فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة، والحمد لله"[5].
6- قال الشريف المرتضى (ت436) "وأما سبب الغيبة فهو إخافة الظالمين له -عليه السلام-، وقبضهم يده عن التصرف فيما جعل إليه التصرف والتدبير له؛ لأن الإمام إنما ينتفع به إذا كان ممكنا مطاعا مخلّى بينه وبين أغراضه ..."[6].
وقال "فإن قيل: فما السبب المانع من ظهوره والمقتضي لغيبته على التحقيق؟
قلنا: يجب أن يكون السبب في ذلك هو الخوف على المهجة، فإن الآلام وما دون القتل يتحمّله الإمام، ولا يترك الظهورَ له، وإنما عَلَت منزلةُ الأنبياء -عليهم السلام- والأئمة -عليهم السلام-؛ لأنهم يتحملون كل مشقة عظيمة بالقيام بما فوّض إليهم"[7].
7- وقال أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الحلبي (ت447) "وأما التفصيل فإن حُسْن غيبة الخائف من الضرر القوي الظن بكون الغيبة مؤمنة له منه فمعلوم ضرورة وجوبها عليه فضلا عن حسنها؛ لكونها محرزا من ضرر، وأما ثبوت ذلك في غيبة الصاحب -عليه السلام- فمختص به -عليه السلام- ..."[8].
8- وقال أبو الفتح الكراجكي (ت449) "والذي اقتضاه العدل والحكمة في هذا الزمان من نصب الإمام للأنام فقد أزاح الله -سبحانه- العلة فيه، وأوجده، ودل عليه بحجة العقل الشاهدة في الجملة بأنه لا بد من إمام كامل معصوم في كل عصر، وبحجج النصوص على التعيين المأثورة عن رسول الله رب العالمين وعن الأئمة من أهل بيته الطاهرين -صلوات الله عليهم أجمعين- في التعريف بصاحب هذا الزمان -عليه السلام- بنعته ونسبه اللذين يتميز بهما عن الأنام، ولكن الظالمين سلكوا سنن من كان قبلهم في قصدهم لإهلاك هداتهم وحرصهم على إطفاء نور مصابيحهم، فقصدوا قصده، فأخافوه، وانطوت نياتهم على قتله متى وجدوه، فأمره الله بالاستتار لِمَا عَلِمَهُ من مباينة حاله لحال كل نبي وإمام أبدى شخصه فقتلهم الناس ..."[9].
9- وقال الشيخ الطوسي "فإن قيل: بيِّنوا على كل حال -وإن لم يجب عليكم- وجهَ علة الاستتار وما يُمكن أن يكون علةً على وجهٍ ليكون أظهر في الحجة وأبلغ في باب البرهان.
قلنا: مما يُقطع على أنه سببٌ لغيبة الإمام هو خوفُه على نفسه بالقتل بإخافة الظالمين إياه ومنعهم إياه من التصرف في ما جُعل إليه التدبير والتصرف فيه، فإذا حيل بينه وبين مُراده، سقط فرض القيام بالإمامة، وإذا خاف على نفسه وجبت غَيْبَتُه ولَزِمَ استتارُه كما استتر النبي -صلى الله عليه وآله- تارةً في الشعب وأخرى في الغار، ولا وجه لذلك إلا الخوف من المضار الواصلة إليه"[10].
وقال في موضع آخر "لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل"[11].
10- وقال الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548) "الوجه في غيبته -عليه السلام- هو خوفه على نفسه، ومن خاف على نفسه احتاج إلى الاستتار، فأما لو كان خوفه على ماله أو على الأذى في نفسه لوجب عليه أن يتحمّل ذلك كله لتنزاح علة المكلفين في تكليفهم، ..."[12].
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأعلام واضح الوجه؛ فإن غيبة الإمام تشتمل على عدم تصدّيه للوظيفة الطبيعية له -وهي القيام بأمور المسلمين-، فلا بد من وجود مبرر لترك الوظيفة الطبيعية، ولا مبرر لذلك بعد ملاحظة وجوبها غير وجود ضرر يجب على الإمام دفعه عن نفسه، ولا يمكن دفع هذا الضرر إلا بالغيبة.
ثم إن هذا الذي ذكره الشيخ هو الموافق لأخبار أهل البيت -عليهم السلام-؛ فقد روى الصدوق بسند معتبر "حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار -رضي الله عنه-، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى الكلابي، عن خالد بن نجيح، عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: إن للقائم غيبة قبل أن يقوم، قلت له: وَلِمَ؟ قال: يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه، ثم قال: يا زرارة، وهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته، منهم من يقول: هو حمل، ومنهم من يقول: هو غائب، ومنهم من يقول: ما ولد، ومنهم من يقول: ولد قبل وفاة أبيه بسنتين، غير أن الله -تبارك وتعالى- يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون.
قال زرارة: فقلت: جعلت فداك فإن أدركت ذلك الزمان فأي شيء أعمل؟ ...".
ثم قال الصدوق "وحدثنا بهذا الحديث محمد بن إسحاق -رضي الله عنه-، قال: حدثنا أبو علي محمد بن همام، قال: حدثنا أحمد بن محمد النوفلي، قال: حدثني أحمد بن هلال، عن عثمان بن عيسى الكلابي، عن خالد بن نجيح، عن زرارة بن أعين، عن الصادق جعفر بن محمد -عليه السلام-.
وحدثنا محمد بن الحسن -رضي الله عنه-، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن علي بن محمد الحجال، عن الحسن بن علي بن فضال، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين، عن الصادق جعفر بن محمد -عليه السلام-، أنه قال: إن للقائم غيبة قبل أن يقوم، وذكر الحديثَ مثلَه سواء"[13].
عن عدة من أصحابنا، "عن أحمد بن محمد، عن أبيه محمد بن عيسى، عن ابن بكير، عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: إن للقائم غيبة قبل أن يقوم، إنه يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه يعني القتل"[14].
ولهذا الخبر أسانيد كثيرة، وفي هذا المعنى أخبار أخرى أيضا يمكن من خلالها تحصيل اليقين بالمسألة[15].
والخبر صريح في أن علة الغيبة الخوف، والخوف قد يُطلق على حالة من الجُبن، وقد يُطلق على التحرك لأجل دفع الضرر، قال الله -تعالى- على لسان موسى -عليه السلام- "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ"[16]، وقال "فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى"[17]، وقال "فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ"[18].
فهل يمكن أن يُفهم من هذا أن موسى -عليه السلام- جبان؟ كلا وحاشاه، فمعنى الخوف إذاً أن الداعي الذي دعاه للفعل هو دفع الضرر، ويُعبر عن ذلك عرفا بالخوف.
فما جاء في الخبر مطابق لما تقدم.
وربما يُقال بوجود أخبار تدل على ثبوت علة أخرى لغيبة الإمام -عليه السلام-، فكيف يمكن الجمع بينها وبين ما تقدّم، سنبيّن ذلك في جواب آخر إن شاء الله.
----------
[1] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كمال الدين، ص90.
[2] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كمال الدين، ص63.
[3] علي بن الحسين ابن بابويه القمي، الإمامة والتبصرة من الحيرة، ص9-10.
[4] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كمال الدين، ص12.
[5] علي بن الحسين الموسوي، الفصول المختارة، ص110-117.
[6] علي بن الحسين الموسوي، المقنع في الغيبة، ص52.
[7] علي بن الحسين الموسوي، الذخيرة في علم الكلام، ص421.
[8] أبو الصلاح تقي الدين الحلبي، تقريب المعارف، ص440.
[9] أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، كنز الفوائد، ص217-218.
[10] محمد بن الحسن الطوسي، الغيبة، ص90.
[11] محمد بن الحسن الطوسي، الغيبة، ص329.
[12] الفضل بن الحسن الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج2 ص299.
[13] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كمال الدين وتمام النعمة، ب33 ح24.
[14] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 2 ص 159 ح908.
[15] لاحظ تفصيلها في القسم الأول من حواشي تلخيص الشافي.
[16] الشعراء: 21
[17] طه: 67
[18] القصص: ١٨