دلّت بعض آيات القرآن الكريم على أن الله -تعالى- خلق الكون لأجل ابتلاء البشر، قال -تعالى- "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"[1]، وقال عز من قائل "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"[2].
والمراد بالابتلاء هو الاختبار والامتحان والفتنة والتمحيص بحيث يتميز الخبيث من الطيب كما هو ظاهر الآيتين السابقتين حيث تعلق الابتلاء بقوله سبحانه "أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"، وقال سبحانه "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"[3]، وقال "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ"[4].
ومن خلال تحليل حقيقة الابتلاء نجد أن الابتلاء يتقوّم بأربع خصوصيات:
الخصوصية الأولى: حرية المُبتليْن:
فلا بد من أن يكون المُبتلى حرا ليتحقق معنى للابتلاء؛ إذ لا معنى لاختبار الناس مع جبرهم على النجاح في الاختبار أو الفشل فيه، بل لا بد من وجود جانب من الحرية يُعطي الابتلاء مقبولية.
وقد أشار القرآن إلى ذلك، قال -تعالى- "وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"[5]، حيث يُستفاد من الآية أن الله لو شاء لجمع الناس على الهدى وجعلهم أمة واحدة على الحق، ولكنه سبحانه شاء أن يبتليهم، وهذا الابتلاء لا يجتمع مع جعلهم أمة واحدة بالجبر والإلجاء، وقال سبحانه أيضا "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"[6].
الخصوصية الثانية: المُبتَلى به:
لا بد من أن يكون للابتلاء متعلّق، فالابتلاء يتحقق من خلال وجود فعل أو ترك ينبغي الالتزام به، فإن تحقق الالتزام نجح المُبتَلى، وإن لم يتحقق فشل.
وقد تم الابتلاء الإلهي من خلال أمر الناس بالعبادة، قال -تعالى- "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ"[7]، ومقتضى الجمع بين ما دل على أن الغرض هو الابتلاء وما دل على أن الغرض هو العبادة هو أن البلاء من خلال الأمر بعبادته سبحانه، فيكون العابد ناجحا في الابتلاء والرافض للعبادة فاشلا فيه.
الخصوصية الثالثة: المشقة في الالتزام بمتعلق الابتلاء:
لا بد من أن يشتمل متعلّق الابتلاء على صعوبة ومشقة في الالتزام به، فلا معنى لابتلاء الجائع بأكل الطعام الذي لا مضرة في أكله ولا مشقة، بل لا بد من أن يشتمل الابتلاء على نوع من المشقة والضيق ليتبيّن من يرجح الالتزام بمتعلّق الابتلاء الشاق وبين من لا يبالي ويرجح جانب الراحة والدعة على ما يقتضيه الابتلاء، بهذا يتفاضل المُبتَلَوْن وتتفاوت درجاتهم.
وقد دلت النصوص على هذه الخصوصية في الابتلاء الإلهي، قال -تعالى- "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ"[8]، وقال "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"[9].
الخصوصية الرابعة: الغاية من البلاء:
يتقوّم مفهوم الابتلاء بتقرر غاية وهدف للابتلاء، فلا بد من أن يكون الابتلاء محققا لهدف من الأهداف، فالأب –مثلا- يبتلي أولاده ليكتشف القوي منهم من الضعيف أو ليُبيّن للجميع قوة واحد منهم وتقدّمه على غيره.
وكذلك الأمر في الابتلاء الإلهي لا بد له من غاية يحققها، والظاهر من الجمع بين الآيات السابقة التي بيّنت أن الله -تعالى- لم يشأ أن يجبر الناس على الهدى لأجل الابتلاء وبين قوله -تعالى- "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ"[10] وقوله "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"[11] أن الهدف من الابتلاء هو الرحمة الخاصة التي تترتب على النجاح في الابتلاء؛ حيث دلت تلك الآيات على أن الله لم يجبر الناس لأجل الابتلاء، ودلت هذه على أن الله لم يجبر الناس لأجل الرحمة، وهذا يعني وجود علقة بين الابتلاء وهذه الرحمة، ومقتضى المناسبة بين الابتلاء والرحمة هو أن المراد بالرحمة في الآيتين رحمة خاصة تترتب على النجاح في الابتلاء.
وقد أشار إلى هذا المعنى ما رواه الشيخ الصدوق "حدثنا محمد بن أحمد الشيباني -رضي الله عنه- قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي عن علي بن سالم عن أبيه عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله -عليه السلام- عن قول الله -عز وجل- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: وسألته عن قول الله -عز وجل- "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم"[12].
وهذه الرحمة الخاصة هي ما يُشير إليه القرآن في قوله -تعالى- "يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ"[13] وقوله "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"[14] وقوله "قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"[15]؛ حيث بيّنت هذه الآيات ونظائرها جزاء الابتلاء، فمع ملاحظة أن الرحمة الخاصة جزاء الابتلاء يتبيّن أن هذه الآيات مُبيّنة للرحمة المترتبة على الابتلاء.
هذه هي الخطوط العامة لمبدأ الابتلاء في القرآن الكريم، فهو هدف للخلق، وهو متفرّع على الاختيار ومتعلق بعبادة الله وطاعته المشتملة على الكلفة والمشقة، والغاية منه إثابة المطيعين بما يشتمل على الرضا والتعظيم والتشريف.
----------
[1] هود:7.
[2] الملك:2.
[3] العنكبوت:2-3.
[4] آل عمران:179.
[5] المائدة:48.
[6] يونس:99.
[7] الذاريات:56-58.
[8] البقرة:155-157.
[9] آل عمران:186.
[10] الشورى:8.
[11] هود:118-119.
[12] محمد بن علي ابن بابويه القمي، علل الشرائع، ج1 باب9 ح10.
وروى الصدوق في التوحيد (باب62 ح10) الجزء الثاني من الحديث فقط بنفس الإسناد.
[13] التوبة:21-22.
[14] التوبة:72.
[15] آل عمران:15.