قد يظهر الاختلاف في سلوك المعصومين -عليهم السلام- في عدة صور:
الصورة الأولى: الاختلاف فيما هو موسّع عليهم -عليهم السلام-
روى الكليني بسند صحيح "علي، عن أبيه؛ ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج وحفص بن البختري وسلمة بياع السابري، عن أبي عبد الله -عليه السلام-، قال: كان علي بن الحسين -عليه السلام- إذا أخذ كتاب علي -عليه السلام- فنظر فيه قال: من يطيق هذا؟! من يطيق ذا؟! قال: ثم يعمل به، وكان إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه حتى يُعرف ذلك في وجهه، وما أطاق أحد عمل علي -عليه السلام- من ولده من بعده إلا علي بن الحسين -عليه السلام-"[1].
فالمستفاد من هذا الحديث اختلاف الأئمة -عليهم السلام- في كثرة العبادة رغم عظم شأنهم جميعا.
وروى سعد بن عبد الله الأشعري بسند صحيح فيما يبدو "وبهذا الإسناد[2]، عن يونس، عن إسحاق بن عمار، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله -عليه السلام-: ما تقول في العزل؟ فقال: كان علي -عليه السلام- لا يعزل، وأما أنا فأعزل، فقلت: هذا خلاف! فقال -عليه السلام-: ما ضر داود -عليه السلام- أن خالفه سليمان -عليه السلام-، والله -عز وجل- يقول "ففهمناها سليمان""[3].
فبيّن الإمام -عليه السلام- أن عليا -عليه السلام- لم يكن يعزل، وأنه -عليه السلام- يعزل، فاعترض الراوي بأن هذا خلاف، فبيّن الإمام -عليه السلام- أن هذا من الخلاف السائغ، فاستشهد -عليه السلام- بما وقع بين نبيّين معصومين من الخلاف مع عظم شأن كل منهما، قال -تعالى- "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً"[4]، فاختلف في هذه المسألة ترجيح داود وسليمان -عليهما السلام- مع عدم وقوع أي منهما في خلاف الحق، مرجع ذلك إلى سعة الحق في بعض الصور.
ولا مانع من الالتزام بهذا التفاوت بين الأئمة -عليهم السلام- بما لا يتنافى مع العصمة وعلو المنزلة، روى الحميري بسند صحيح "أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: كتبت إلى الرضا -عليه السلام-: إني رجل من أهل الكوفة، وأنا وأهل بيتي ندين الله -عز وجل- بطاعتكم، وقد أحببت لقاءك لأسألك عن ديني ...
فكتب: قال أبو جعفر -عليه السلام-: لا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرهم ما يجري لأولهم في الحجة والطاعة والحرام والحلال سواء، ولمحمد -عليه السلام- ولأمير المؤمنين فضلهما، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: من مات وليس عليه إمام حي يعرفه مات ميتة جاهلية.
..."[5].
الصورة الثانية: الاختلاف لاختلاف الظروف والخصوصيات
ومرجع هذه الصورة إلى اختلاف الظروف من زمن إلى آخر بحيث يؤدي ذلك إلى اختلاف التكليف، ومع اختلاف التكليف يؤدي الإمام -عليه السلام- تكليفَه بما يُناسب ظروفه.
روى الكليني بسند صحيح "محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس الكناسي، قال: سمعت أبا جعفر -عليه السلام- يقول وعنده أناس من أصحابه: عجبت من قوم يتولَّوْنا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله -صلى الله عليه وآله- ثم يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا! أترون أن الله -تبارك وتعالى- افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!! فقال له حمران: جعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين -عليهم السلام- وخروجهم وقيامهم بدين الله -عز ذكره- وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظَّفَرِ بهم حتى قُتِلوا وغُلِبوا؟ فقال أبو جعفر -عليه السلام-: يا حمران، إن الله -تبارك وتعالى- قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار[6]، ثم أجراه، فَبِتَقَدُّمِ علمٍ إليهم من رسول الله -صلى الله عليه وآله- قام علي والحسن والحسين -عليهم السلام-، وبعلمٍ صَمَتَ من صَمَتَ منّا، ولو أنّهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله -عز وجل- وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله -عز وجل- أن يدفع عنهم ذلك وألحّوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم = إذاً لأجابهم ودَفَعَ ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب مُلْكِهم أسرعَ من سِلْكٍ منظومٍ انقطعَ فتبدّد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم"[7].
فالحديث يدل على أن ما يفعله الأئمة -عليهم السلام- من المواقف المهمة في مسيرة الأمة = معهود من قبل الله، ولا معنى لهذا إلا لاختلاف الظروف؛ فإن حلال محمد -صلى الله عليه وآله- حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فلا بد لتبرير اختلاف التكليف من إرجاعه إلى اختلاف الظروف والخصوصيات.
وروى الكليني "محمد بن يحيى والحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن علي بن الحسين بن علي[8]، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة، عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله -عليه السلام-، قال: إن الوصية نزلت من السماء على محمد كتابا، لم ينزل على محمد -صلى الله عليه وآله- كتاب مختوم إلا الوصية، فقال جبرئيل -عليه السلام-: يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: أي أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيبُ الله منهم وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم -عليه السلام- وميراثه لعلي -عليه السلام- وذريتك من صلبه، قال: وكان عليها خواتيم، قال: ففتح علي -عليه السلام- الخاتم الأول ومضى لما فيها، ثم فتح الحسن -عليه السلام- الخاتم الثاني ومضى لما أُمِرَ به فيها، فلما توفي الحسن ومضى فتح الحسين -عليه السلام- الخاتم الثالث، فوجد فيها أن قاتِل فَاقْتُل وتُقْتَل، واخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلا معك، قال: ففعل -عليه السلام-، فلما مضى دفعها إلى علي بن الحسين -عليهما السلام- قبل ذلك، ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن اصمت وأطرق لما حجب العلم، فلما توفي ومضى دفعها إلى محمد بن علي -عليهما السلام-، ففتح الخاتم الخامس، فوجد فيها أن فسر كتاب الله -تعالى- وصدّق أباك وورث ابنك واصطنع الأمة وقم بحق الله -عز وجل- وقل الحق في الخوف والأمن ولا تخش إلا الله، ففعل، ثم دفعها إلى الذي يليه، قال: قلت له: جعلت فداك فأنت هو؟ قال: فقال: ما بي إلا أن تذهب يا معاذ فتروي علي، قال: فقلت: أسأل الله الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات، قال؟ قد فعل الله ذلك يا معاذ، قال: فقلت: فمن هو جعلت فداك؟ قال: هذا الراقد -وأشار بيده إلى العبد الصالح وهو راقد-"[9].
وبهذا يتضح أنه لا ملازمة بين اختلاف العمل وانتفاء العصمة؛ لإمكان وقوع ذلك على وجوه لا تنافي العصمة.
----------
[1] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج15 ص388 ح14987.
[2] الظاهر أن المراد من الإشارة في الإسناد هو "محمد بن الحسين بن أبي الخطاب والحسن بن موسى بن الخشاب ومحمد بن عيسى بن عبيد، عن علي بن أسباط"، ويوجد مُحتمل آخر في المقام، وما رجحناه هو ما فهمه الحر العاملي في الوسائل ح25277.
[3] الحسن بن سليمان الحلي، المجموعة الحديثية، ح269.
[4] ص:78-79.
[5] عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، ح1260.
[6] لم يأت قوله "على سبيل الاختيار" في بقية مصادر الخبر من الكافي والبصائر، والذي أميل إليه أن هذا اللفظ كان في حاشية الكتاب لدفع توهّم الجبر، فأضيف إلى الخبر اشتباها.
[7] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1 ص651 ح683.
وروى الكليني قطعة منه في الكافي ج1 ص701 ح744 بنفس الإسناد، ورواه الصفار في البصائر ج3 ب5 ح3 "حدثنا أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن ضريس، ..."، ورواه سعد بن عبد الله الأشعري في بصائر الدرجات على ما في الباب 16 من الخرائج والجرائح ح87 "وعن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وأحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن ضريس الكناسي، ..."، ونقله الحسن بن سليمان في المجموعة الحديثية ح357 عن الخرائج لا عن مختصر البصائر لسعد.
[8] كذا، والصحيح "علي بن الحسن بن علي"، وهو ابن فضال؛ فإنه الراوي لكتاب إسماعيل بن مهران.
[9] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1 ص697 ح742.