image
لماذا يمسح الشيعة على القدمين في الوضوء؟

إن ما يصنعه الشيعة في وضوئهم من مسح القدمين بالماء بدلا من غسلها هو الصحيح؛ وذلك مطابق لما نص عليه القرآن الكريم، وما جاء في روايات أهل البيت -عليهم السلام- في حكاية وضوء النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله-، فالحديث يقع أولا حول الآية الكريمة، ثم حول الأخبار الشريفة.

 

الجانب الأول - الآية الكريمة:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: ٦]، وقد قرئت هذه الآية بقراءتين:

  • الأولى: قراءة جر "أرجلِكم"

رويت القراءة عن: كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف، وأنس، وعكرمة، ويحيى بن وثاب، والشعبي، وقتادة، وعلقمة، والضحاك، والأعمش، وهي القراءة المنسوبة للإمام الباقر -عليه السلام-[1]، وقد رجحها الطبري في تفسيره[2].

وهذه القراءة واضحة الدلالة على وجوب مسح الأرجل، فإنها بعد أن أمرت بغسل الوجه واليدين، أمرت بمسح بعض الرأس، ثم عطفت لفظ "الأرجل" على "الرأس"،  فتكون قد أمَرت بمسح الأرجل كما أمرت بمسح الرأس، وهو واضح جدا. 

نعم، ذكر الأخفش وأبو عبيدة أن الجر ههنا من باب الجر للمجاورة[3]، بمعنى أن الأرجل منصوبة محلًّا مجروة لفظا، وهو غير صحيح لعدة أمور:

·        الجر بالمجاورة شاذ نادر لا يقاس عليه، ولا يحمل عليه اللفظ القرآني، وقد  ذكر الزجاج بأن هذا لا يكون في كلام الله تعالى[4].

·        ذكر ابن هشام في المغني أن هذا مخصوص بالنعت قليلا، وبالتوكيد نادرا ولا يأتي في موردنا[5]، وأما في العطف فلا يحسن جر المعطوف بالمجاورة؛ لأن حرف العطف حاجز بين الاسمين و مبطل للمجاورة[6].

·        الجر بالمجاورة إن صح فإنما يصح حيث لا تحصل شبهة في المعنى كما في قولهم "هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ"؛ إذ لا يحتمل أن يكون الضب خربا، أما في موردنا فالجر بالمجاورة ملبس جدا، وإلا لما وقع الخلاف بيننا من أساس.

  • الثانية: قراءة نصب "أرجلَكم"

رويت القراءة عن: نافع والكسائي وابن عامر وحفص عن عاصم وابن مسعود ويعقوب والأعشى وأبو بكر وابن عباس والشافعي والمفضل، ونسبت إلى أمير المؤمنين -عليه السلام-[7].

استدل جماعة من أهل السنة بهذه القراءة على  مذهبهم في غسل الرجلين، وذلك لأن الآية قد نصبت "أرجل"، فلا تكون معطوفة على "رؤوسِكم" المجرورة، بل تكون معطوفة على "أيديَكم" المنصوبة، فتكون الآية قد أمرت بغسل الوجه واليدين والرجلين، وبمسح خصوص الرأس، غاية الأمر أن الآية فَصَلَت بين المتعاطفين (أيديكم) و(أرجلكم) بفاصل هو قوله  تعالى:(وامسحوا برؤوسِكم).

وتمكن الملاحظة على ما ذكروه بعدة ملاحظات:

الأولى – ثمة وجه نحوي آخر أقوى وأفصح في الآية، وهو العطف على المحل، ففي اللغة العربية تارة يكون العطف على اللفظ، كما لو قلت جاء زيدٌ وعمرٌ، فعمرو مرفوع؛ لأنه معطوف على لفظ زيد، وتارة يكون العطف على المحل، كما لو قلت ليس زيد بقائم ولا قاعدًا، حيث إن "قاعدا" قد عطف على محل "قائمٍ"، فكلمة قائم مجرورة لفظا؛ لجرها بحرف الجر، ومنصوبة محلا؛ لأنها خبر ليس.

 وقد ورد هذا  في الشعر العربي، قال الشاعر:

معاوي إننا بشر فأسجح     فلسنا بالجبالِ ولا الحديدَا

حيث عطف الحديدا على محل الجبار فنصبه.

وحينئذ يكون المعنى المستفاد -من ناحية الأعضاء المطلوب غسلها ومسحها- نفس ما فهم من قراءة الجر، فالآية آمرة بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين.

فالحاصل أنه مع وجود هذا الوجه الإعرابي  الفصيح، يكون حمل الكلام على الفصل بين المتعاطفين محتاجا إلى مرجح، وهو ما سنذكره في الملاحظة الثانية.

الثانية – ما ذكروه من وجه إعرابي (الفصل بين المتعاطفين) خلاف الظاهر من الآية الكريمة، فلو قال لك شخص اضرب زيدا وعمرا وأكرم بكرا وخالدا، فالذي تفهمه من كلامه بلا تردد أن المراد ضرب زيدٍ وعمرٍو وإكرام بكر وخالد، فلو أنك ضربت خالدا باحتمال أن خالدا معطوف على عمرو لكان فهمك سقيما بلا إشكال.

ويشهد على هذا الظهور عدة مرجحات:

الأول: الأرجح في المعمول أن يكون معمولا للعامل الأقرب لا الأبعد، ففي آيتنا إما أن يكون عامل النصب في "أرجلكم" فعلَ "اغسلوا" وإما أن يكون فعلَ "امسحوا"، والثاني هو الأقرب، فالأولى أن يكون هو العامل.

الثاني: الفصل بين المتعاطفين بالأجنبي خلاف الأصل، بل إن البعض عده أمرا مرجوحا، ينقل النحوي أبو حيان في تفسير البحر المحيط: "قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج"[8].

الثالث: هذا الوجه الإعرابي هو الذي يتوافق مع قراءة الجر، فإن قراءة الجر توجب المسح كما ذكرنا، فلما كان في قراءة النصب وجهان: وجب حملها على الوجه الذي يتناسب مع القراءة الأخرى وإلا كانتا متنافيتين؛ لأن الغسل مغاير للمسح، والأصل أن تكون القراءاتان بمعنى واحد.

وقد صرح بهذا الاصل مجموعة من أعلام أهل السنة، قال السمين الحلبي: "والأصل توافق القراءات"[9]، وقال الآلوسي في تفسيره:  "لأن القراءات يفسر بعضها بعضا"[10]، وقال الطاهر ابن عاشور في تفسيره: "لأن الأصل في اختلاف القراءات الصحيحة اتحاد المعاني"[11]، وقال الشيخ مكي بن أبي طالب: "وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن"[12] ويظهر من ابن هشام تطبيقه في المغني[13].

من هنا ذهب بعض من أعلام السنة أن الآية دالة على المسح كالفخر الرازي[14]، وإنما يصار إلى الغسل لوجود الأخبار الشريفة الموجبة للغسل، ومن ثم حاول الجمع بينهما.

 

الجانب الثاني – الأخبار الشريفة:

إجماع أئمة أهل البيت -عليهم السلام- على وجوب المسح لا الغسل، وقولهم حجة، بل إنهم قد نقلوا ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- وأهل البيت أدرى بأفعاله  -صلى الله عليه وآله-، والأحاديث في ذلك كثيرة، نذكر منها خبرا واحدا:

روى الشيخ الكليني بسند صحيح: "علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبان وجميل، عن زرارة قال: حكى لنا أبو جعفر -عليه السلام- وضوء رسول الله، -صلى الله عليه وآله-، فدعا بقدح فأخذ كفا من ماء فأسدله على وجهه ثم مسح وجهه من الجانبين جميعا، ثم أعاد يده اليسرى في الإناء فأسدلها على يده اليمنى ثم مسح جوانبها، ثم أعاد اليمنى في الإناء فصبها على اليسرى ثم صنع بها كما صنع باليمنى، ثم مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه و لم يعدهما في الإناء."[15]

وأما ما رواه أهل السنة من أخبار في وجوب غسل الرجلين فلا يمكن الأخذ بها لعدة أمور:

أولا – هي ليست حجة على أهل الشيعة الذين يأخذون الأخبار من أهل البيت -عليهم السلام-.

ثانيا – هذه الأخبار معارضة بالقرآن الكريم حيث ينص على وجوب المسح -كما تقدم-.

ثالثا – هذه الأخبار معارَضَة بما هو مقطوع عن أهل البيت -عليهم السلام- من وجوب المسح، فإما أن تحمل على معنى متناسب مع الآية الكريمة والأخبار الصحيحة أو أن ترد.

والحمد لله رب العالمين.

 

----------


[1] عبد اللطيف الخطيب، معجم القراءات، ج٢ ص٢٣١

[2] ابن جرير الطبري، تفسير جامع البيان، ج٨ ص٢٠٠.

[3] نقله عبد اللطيف الخطيب في حاشيته على مغني اللبيب ج٤ ص ٣٦٨.

[4] نقله عبد اللطيف الخطيب في حاشيته على مغني اللبيب ج٤ ص ٣٦٨.

[5] ابن هشام الأنصاري، مغني اللبيب، ج٦ ص٦٦٢.

[6] ابن هشام الأنصاري، شرح شذور الذهب، ص٢٤٨.

[7] عبد اللطيف الخطيب، معجم القراءات، ج٢ ص٢٣٢

[8] أبو حيان الأندلسي، تفسير البحر المحيط، ج٣، ص٤٥٢

[9] السمين الحلبي، الدر المصون، ج٣ ص٥٥٥

[10] محمود شكري الآلوسي، روح المعاني، ج٤ ص١١

[11] الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج٢٥ ص١٦٠

[12] مكي بن أبي طالب، الكشف عن وجوه القراءات السبع ج١ ص٢٢٧

[13] لاحظ: ابن هشام الأنصاري، مغني اللبيب (ط- الخطيب)، ج٢، ص١٢٢ في قوله: "وهي بمعنى القراءة المشهورة".

[14] فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، ج١١ ص٣٠٦.

[15] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج٣، ص٢٤، ح١

شارك عبر الرابط شارك على الواتس اب شارك على X أنشرها على الفيسبوك شارك على تليغرام

هل لديك سؤال؟ اسألنا!

اسألنا