يوجد طريقان لإثبات ولادة الإمام المهدي -عجل الله تعالى فرجه-:
الطريق الأول: إثبات ولادة الإمام عن طريق القواعد الثابتة
وتارة يكون الاستدلال بالقواعد الثابتة عقلاً فقط -وسيأتي عند نقل كلام الأصحاب-، وتارة بالقواعد الثابتة عقلاً ونقلاً.
ويمكن تقريب الاستدلال بالنحو الثاني بالبيان التالي:
إذا ثبت [1] أنّ الأرض لا تخلو من إمام، [2] وأنّ الإمامة تجري في الأعقاب ولا تكون في أخوين بعد الإمام الحسن والحسين -عليهم السلام- = ثبت وجود الإمام المهدي -عجل الله تعالى فرجه- وأنّه ابن الإمام العسكري -عليه السلام-.
والذي يدل على القاعدة الأولى روايات كثيرة، منها:
روى الكليني بسند صحيح "عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبد الله -عليه السلام-: تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا، قلت: يكون إمامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت"[1].
وروى الكليني بسند صحيح "علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير: عن أحدهما -عليهما السلام- قال: قال: إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولو لاذلك لم يعرف الحق من الباطل"[2].
كما أنّ هذه القاعدة يمكن إثباتها عقلاً، وتفصيل ذلك في محله.
والذي يدل على القاعدة الثانية روايات كثيرة، منها:
روى الكليني بسند صحيح "علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة: عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين أبدا، إنما جرت من علي بن الحسين كما قال الله -تبارك وتعالى-: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله" فلا تكون بعد علي بن الحسين إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب"[3].
وروى الكليني بسند صحيح " محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن حماد بن عيسى: عن أبي عبد الله -عليه السلام- أنه قال: لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين، إنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب"[4].
هذا، وقد ورد استدلال الإمام الحسن العسكري -عليه السلام- على إمامته بهذا الطريق.
روى الصدوق بسند صحيح "حدثنا محمد بن الحسن -رضي الله عنه-، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: خرج عن أبي محمد -عليه السلام- إلى بعض رجاله في عرض كلام له: ما مُنِي أحد من آبائي -عليه السلام- بما منيت به من شك هذه العصابة فِيَّ، فإن كان هذا الأمر أمرا اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع، وإن كان متصلا ما اتصلت أمور الله -عز وجل- فما معنى هذا الشك؟!"[5].
الطريق الثاني: إثبات ولادة الإمام عن طريق الروايات الدالة على رؤيته
ودلت على ذلك روايات كثيرة، منها:
روى الكليني بسند صحيح "محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا، عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو -رحمه الله- عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إني أريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه؛ فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوما، فإذا كان ذلك رفعت الحجة، وأغلق باب التوبة فلم يك ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فأولئك أشرار من خلق الله -عز وجل- وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكني أحببت أن أزداد يقينا، وإن إبراهيم -عليه السلام- سأل ربه -عز وجل- أن يريه كيف يحيي الموتى؟ قال: "أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي".
وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن -عليه السلام-، قال: سألته وقلت: من أعامل؟ أو عمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي؛ فما أدى إليك عني، فعني يؤدي، وما قال لك عني، فعني يقول؛ فاسمع له وأطع؛ فإنه الثقة المأمون.
وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد -عليه السلام- عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان؛ فما أديا إليك عني، فعني يؤديان، وما قالا لك، فعني يقولان؛ فاسمع لهما وأطعهما؛ فإنهما الثقتان المأمونان.
فهذا قول إمامين قد مضيا فيك؛ قال: فخر أبو عمرو ساجدا وبكى، ثم قال: سل حاجتك، فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد -عليه السلام-؟ فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا، وأومأ بيده.
فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، قلت: فالاسم؟ قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي؛ فليس لي أن أحلل ولا أحرم، ولكن عنه -عليه السلام-؛ فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد -عليه السلام- مضى ولم يخلف ولدا، وقسم ميراثه، وأخذه من لاحق له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم، أو ينيلهم شيئا، وإذا وقع الاسم وقع الطلب؛ فاتقوا الله، وأمسكوا عن ذلك.
قال الكليني -رحمه الله-: وحدثني شيخ من أصحابنا- ذهب عني اسمه- أن أبا عمرو سئل عند أحمد بن إسحاق عن مثل هذا، فأجاب بمثل هذا"[6].
استدلال الأصحاب بهذين الطريقين
قال السيد المرتضى (413 هـ): "وبيان هذه الجملة: [1] أنّ العقل قد دلّ على وجوب الإمامة، وأنّ كلّ زمان -كُلّف فيه المكلّفون الّذين يجوز منهم القبيح والحسن، والطاعة والمعصية- لا يخلو من إمام، وأنّ خلوّه من إمام إخلال بتمكينهم، وقادح في حسن تكليفهم.
[2] ثمّ دلّ العقل على أنّ ذلك الإمام لا بدّ من كونه معصوما من الخطأ والزلل، مأمونا منه فعل كلّ قبيح.
وليس بعد ثبوت هذين الأصلين إلاّ إمامة من تشير الإماميّة إلى إمامته؛ فإنّ الصفة التي دلّ العقل على وجوبها لا توجد إلاّ فيه، ويتعرّى منها كلّ من تُدّعى له الإمامة سواه، وتنساق الغيبة بهذا سوقا حتى لا تبقى شبهة فيها.
وهذه الطريقة أوضح ما اعتُمد عليه في ثبوت إمامة صاحب الزمان، وأبعد من الشبهة؛ فإنّ النقل بذلك وإن كان في الشيعة فاشيا، والتواتر به ظاهرا، ومجيؤه من كلّ طريق معلوما، فكلّ ذلك يمكن دفعه وإدخال الشبهة فيه، التي يحتاج في حلّها إلى ضروب من التكلّف، والطريقة التي أوضحناها بعيدة من الشبهات، قريبة من الأفهام"[7].
قال المحقق الحلي (676 هـ): "وقد عرفت قيام الدلالة على [1] أنّ الزمان لا يخلو من إمام، [2] وأنّه يجب أن يكون معصوماً، وكل من قال بذلك قال بأنّ الإمام الآن هو الذي نشير إليه.
وثبت أيضاً من الأخبار المتواترة عن النبي والأئمة -عليهم السلام- ما تتضمن النص على اسمه ونسبه ووجوده، فأغنى ذلك عن التعرض للزيادة في الدلالة"[8].
والحمد لله رب العالمين.
----------
[1] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1 ص433 ح451.
[2] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1 ص435 ح455.
[3] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1 ص713 ح754.
[4] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1 ص714 ح756.
[5] محمد بن علي ابن بابويه القمي، كمال الدين وتمام النعمة، ص222.
[6] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج2 ص125 ح869.
ورواه الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة ص441 بسند صحيح عن الحميري.
[7] علي بن الحسين الموسوي، المقنع في الغيبة (ضمن مؤلفات الشريف المرتضى ج18)، ص100-101.
[8] جعفر بن الحسن الحلي، المسلك في أصول الدين، ص266.