image
لماذا اختلفت أحاديث أهل البيت وتناقضت كما ذكر الشيخ الطوسي وغيره مع أنهم عليهم السلام معصومون؟

يتضح الجواب عن هذا السؤال عن طريق بيان أنّه توجد أسباب لاختلاف الأحاديث لا ترجع إلى خطأ المعصوم -عليهم السلام-، فلا تكون هناك منافاة بين عصمة الأئمة -عليهم السلام- واختلاف أحاديثهم.

ويمكن تقسيم هذه الأسباب إلى قسمين رئيسين:

 

القسم الأول: الأسباب المرتبطة بنقل النص

ومن هذه الأسباب:

السبب الأول: الكذب والوضع

روى الكشي بسند صحيح "حدثني محمد بن قولويه والحسين بن الحسن بن بندار القمي، قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثني محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا -صلى الله عليه وآله-، فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله-.

قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر -عليه السلام- ووجدت أصحاب أبي عبد الله -عليه السلام- متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا -عليه السلام- فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله -عليه السلام-، وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله -عليه السلام-، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله -عليه السلام-، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدِّث، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا: أنت أعلم وما جئت به، فإن مع كل قول منا حقيقة وعليه نورا، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان"[1].

السبب الثاني: سوء فهم الراوي

روى الكليني بسند صحيح "محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله -عليه السلام-: إن عمارا الساباطي روى عنك رواية؟ قال: وما هي؟  قلت: روى أن السنة فريضة، فقال: أين يذهب؟! أين يذهب؟! ليس هكذا حدثته، إنما قلت له: من صلى، فأقبل على صلاته لم يحدث نفسه فيها، أو لم يسه فيها، أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربما رفع نصفها، أو ربعها، أو ثلثها، أو خمسها، وإنما أمرنا بالسنة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة"[2].

السبب الثالث: تقطيع الحديث

روى الشيخ بسند صحيح "الحسين بن سعيد، عن علي بن إسماعيل، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله -عليه السلام-، قال: إنما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل"[3].‏

وروى الكليني بسند صحيح "محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر -عليه السلام- عن امرأة حرة تزوجت مملوكا على أنه حر، فعلمت بعد أنه مملوك؟ قال: هي أملك بنفسها، إن شاءت أقرت معه، وإن شاءت فلا، فإن كان دخل بها فلها الصداق، وإن لم يكن دخل بها فليس لها شي‏ء، فإن هو دخل بها بعد ما علمت أنه مملوك وأقرت بذلك، فهو أملك بها"[4].

الرواية الأولى تحصر أسباب فسخ عقد النكاح بأمور أربعة ليست منها تدليس العبد نفسه على أنّه حر، بينما الرواية الثانية تدل على جواز الفسخ بسبب هذا التدليس، فالروايتان متعارضتان.

ويرتفع الإشكال بعد ملاحظة وقوع التقطيع في الرواية الأولى مما أوهم أنّ حصر أسباب الفسخ عام لعيوب الرجال والنساء، بينما الرواية الأولى في الواقع ترتبط بعيوب النساء فقط.

روى الشيح بسند صحيح "حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله -عليه السلام- أنه قال: في رجل يتزوج إلى قوم فإذا امرأته عوراء ولم يبينوا له، قال: لا ترد؛ إنما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل، قلت: أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال: لها المهر بما استحل من فرجها، ويغرم وليها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها"[5].

 قال الشيخ المسجدي: "وبهذا يتضّح أنّ سبب اختلاف الروايات المذكورة هو تقطيع رواية الحلبي في كتاب التهذيب، مما سبّب توّهم إطلاق الرواية، وبالتالي فهي تعمّ الرجال والنساء، مع أنّها في خصوص النساء، والحصر الموجود فيها بلحاظ النساء فقط"[6]

 

القسم الثاني: الأسباب المرتبطة بطريقة صاحب الشرع

وهي الأسباب الراجعة إلى طريقة المعصوم في بيان الأحكام وما يرتبط بذلك، ومن هذه الأسباب:

السبب الأول: الإفتاء

للأئمة -عليهم السلام- أسلوبان لبيان الأحكام الشرعية: أسلوب التعليم وأسلوب الإفتاء.

والمراد بأسلوب التعليم هو الذي يكون عن طريق بيان الأحكام والقواعدة العامة، وقد يقع هذا في مجالس متعددة، ولهذا يصح أن يُعتمد على القرائن المنفصلة في هذا الأسلوب.

والمراد بأسلوب الإفتاء هو الذي يكون عن طريق بيان الحكم العملي المباشر للراوي بالنظر إلى حالته الخاصة، ومن هنا لا يصح الاعتماد على القرائن المنفصلة في هذا الأسلوب[7].

وعدم التفريق بين الأسلوبين قد يؤدي إلى توّهم الاختلاف بين الأحاديث.

مثال ذلك ما رواه الكليني بسند فيه ضعف "علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخراز، عن سلمة بن محرز، قال: سألت أبا عبد الله -عليه السلام- عن رجل وقع على أهله قبل أن يطوف طواف النساء؟ قال: ليس عليه شي‏ء، فخرجت إلى أصحابنا، فأخبرتهم، فقالوا: اتقاك، هذا ميسر قد سأله عن مثل ما سألت، فقال له: عليك بدنة، قال: فدخلت عليه، فقلت: جعلت فداك، إني أخبرت أصحابنا بما أجبتني، فقالوا: اتقاك، هذا ميسر قد سأله عما سألت، فقال له: عليك بدنة؟ فقال: إن ذلك كان بلغه، فهل بلغك؟ قلت: لا، قال: ليس عليك شي‏ء"[8].

فلاحظ أنّ الإمام -عليه السلام- في الرواية أفتى سلمة بعدم وجود البدنة وفقاً لحالته من عدم بلوغه الحكم، بينما أفتى لميسر بوجوب البدنة نظراً لبلوغه الحكم.

ومثال آخر لذلك ما رواه الصدوق بسند فيه ضعف عن "خالد بياع القلانس، قال: سألت أبا عبد الله -عليه السلام- عن رجل أتى أهله وعليه طواف النساء؟ قال: عليه بدنة، ثم جاءه آخر فسأله عنها فقال: عليه بقرة، ثم جاءه آخر فسأله عنها فقال: عليه شاة، فقلت بعد ما قاموا: أصلحك الله، كيف قلت عليه[9] بدنة؟ فقال: أنت موسر وعليك بدنة، وعلى الوسط بقرة، وعلى الفقير شاة"[10].

فلاحظ اختلاف الجواب بناء على اختلاف الحالة المادية للسائل.

السبب الثاني: الجري على مقتضى الأعراف المحيطة بالنص

ومن أمثلة ذلك أن يختلف عرف بلد عن آخر في أمر ما، فيجيب الإمام -عليه السلام- بحسب ما هو متعارف عند عرف السائل.

ومن ذلك ما ورد في تحديد مقدار الكر:

روى الشيخ بسند معتبر "أخبرني به الشيخ -أيده الله تعالى-، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله -عليه السلام-، قال: الكر من الماء الذي لا ينجسه شي‏ء ألف ومائتا رطل"[11].

وروى الشيخ بسند صحيح "عنه[12] عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن أبي أيوب عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال‏: قلت له الغدير فيه ماء مجتمع تبول ‏فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب قال إذا كان قدر كر لم ينجسه شي‏ء والكر ستمائة رطل"[13].

جمع الفقهاء[14] بين الأخبار بحمل الرطل في الحديث الأول على الرطل العراقي، وفي الحديث الثاني على الرطل المكي الذي هو ضعف الرطل العراقي، ومن الشواهد على هذا الحمل هو أنّ محمد بن مسلم من الطائف، فكلّمه الإمام -عليه السلام- بالأرطال المعهودة لدى أهل مكة وحواليها.

السبب الثالث: التقية

من أسباب اختلاف الأحاديث التقية، فقد يفتي الإمام -عليه السلام- بحكم ما للتقية، ثم يبين الحكم الواقعي في مورد آخر عندما ترتفع الحاجة إلى التقية.

وللتقية أسباب، منها: الخوف من السلطان، ودفع الضرر عن الشيعة.

مثال الأول ما رواه الكليني بسند فيه ضعف "عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن المفضل بن صالح، عن أبان بن تغلب، قال: سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: كان أبي عليه السلام يفتي في زمن بني أمية أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال، وكان يتقيهم، وأنا لا أتقيهم، وهو حرام ما قتل"[15].

ومثال الثاني ما رواه الكليني بسند صحيح "محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم البجلي، عن سالم أبي خديجة: عن أبي عبد الله -عليه السلام-، قال: سأله إنسان وأنا حاضر، فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلون العصر، وبعضهم يصلون الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم بهذا؛ لو صلوا على وقت واحد، عرفوا، فأخذ برقابهم"[16].

هذه بعض أسباب اختلاف الأحاديث التي لا تنافي عصمة الأئمة -عليهم السلام-، والحمد لله رب العالمين.

 

----------

 

[1] محمد بن الحسن الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص224 رقم 401.

[2] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج6 ص291 ح5198.

[3] محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام، ج7 ص424.

[4] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج10 ص797 ح9759.

[5] محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام، ج7 ص426.

[6] حيدر المسجدي، دروس في اختلاف الحديث، ص162.

[7] للاطلاع على تفصيل أكثر فيما يرتبط بهذا التفصيل بين الأسلوبين، لاحظ: علي السيستاني، تعارض الأدلة واختلاف الحديث، ج1 ص224 وما بعده.

[8] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج8 ص492 ح7389.

[9] كذا، ولعل الصحيح: عليّ.

[10] محمد بن علي ابن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج2 ص363 ح2716.

[11] محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام، ج1 ص41 ح113.

[12] أي محمد بن علي بن محبوب.

[13] محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام، ج1 ص414 ح1308.

[14] لاحظ على سبيل المثال: أبو القاسم الخوئي، موسوعة الإمام الخوئي، ج2 ص152+.

[15] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج12 ص102 ح11278.

[16] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج6 ص40 ح4838.

شارك عبر الرابط شارك على الواتس اب شارك على X أنشرها على الفيسبوك شارك على تليغرام

هل لديك سؤال؟ اسألنا!

اسأل الباحث