image
هل يمكن إثبات نبوة النبي بحسن سيرته؟

للجواب عن السؤال لابد أولا من تقرير الاستدلال فنقول:
يمكن أن يقال في مقام الاستدلال أن سيرة مدعي النبوة وحسن أخلاقه سواء كان ذلك قبل الادعاء أو بعده أو حسن أدواته التي يعتمد عليها لتشريع القوانين والتي ترجع إلى حسن الخلق أو بمجموع هذه الأمور كلها أو ببعضها دليل كاشف عن صدق مدعي النبوة، فحسن أخلاقه وسيرته المستقيمة خاصة لمن عرفه لا ينسجم مع كذبه في مثل ادعاء النبوة، ومن الواضح بأدنى تأمل أن كل واحد من الأمور المتقدمة لا يمكن التمسك به كدليل مستقل على مطابقة دعواه للواقع وصعوبة الاعتماد عليه لإثبات صدق المدعي، ولكن يمكن القول بأنها قرائن تساعد على تصديق المدعي وبيان قوة هذه القرائن يحتاج إلى شيء من التفصيل، ونشرع أولا بالتعرض للنقاط الثلاث كل واحد منها بمعزل عن الآخر ونقاشها على أنها استدلال والنظر في تمامية هذا الاستدلال، ثم بعد ذلك ننظر إليها بالمجموع على أنها قرائن، فنقول: 


أولا: النظر إليها على نحو الاستدلال:
الدليل الأول: صدق مدعي النبوة قبل ادعائه واستقامته وظهور هذا الأمر لمن عاش معه كاشف عن صدق دعواه في النبوة   
الدليل الثاني: تصديق مدعي النبوة لحسن حاله بعد الادعاء لأن حسن حاله طريق كاشف عن صدقه في أصل ادعاء النبوة 
الدليل الثالث: أدواته التي يعتمد عليها والتي هي بدورها تكشف عن حسن الخلق وحسن الخلق كاشف عن صدقه في أصل ادعاء النبوة  

 

نقاش الاستدلال المتقدم: 
أما الدليل الأول والثاني فصدق المدعي في حال من الأحوال لا يكشف عن صدقه في ادعائه للنبوة، فإنّ احتمال الكذب في خصوص ادعاء النبوة وارد عقلا، ولكن تقويةً للاستدلال نقول أنّ احتمال الكذب يمكن انتفاؤه للبعض خاصة إن اثبات مثل هذا الدليل يرجع الى ملاحظة مجموع خصوصيات مدعي النبوة والتي يمكن أن توصل بحساب الاحتمال إلى الاطمئنان بل إلى اليقين بصدق المدعي، ولكن كل ما يثبته هذان الدليلان على فرض ملاحظة الخصوصيات هو اثبات الصدق دون اثبات مطابقة الادعاء للواقع، فلا يمكن أن نحرز أن هذا المدعي لم يشتبه في دعواه ونفس هذا الاشكال -الاشتباه- يرد على الدليل الثالث، فإمكان تصديق مدعي النبوة بملاحظة سيرته ممكن بالوجدان ولا اشكال فيه ثبوتا، فعلى فرض تحقق إحراز عدم الكذب في ادعاء النبوة فلا ملازمة بين عدم الكذب وعدم الاشتباه فلابد من دليل آخر يرفع احتمال الاشتباه ليتم الدليل.  

 

توضيح وتبسيط لما تقدم:
إذا أخبرك شخص بأمر فتصديقه يتحقق من خلال معرفتك بوثاقة هذا الشخص، وكلما كان الخبر غريبا وخطيرا فتصديق قوله ممكن بالوجدان ولكنه يحتاج إلى تراكم خبراتك به، وتوضيحا لذلك سوف اعرض مثالين وبالتأمل بهما نصل إلى فهم المطلب إن شاء الله تعالى:
المثال الأول: إذا كنت تعرف إنسانا معرفة محدودة وتثق به بقدر معرفتك، فإن أخبر بأمر فلا نقول أننا نقبل بخبره على نحو الاطلاق وعلى كل حال بل نجد أننا نفرق بين خبر وآخر بحسب خصوصيات الخبر والمخبر، فيختلف التصديق بإخباره باختلاف خطورة الخبر وأهميته ومدى انتفاع المخبر ودفعه لضرر عن نفسه ومدى دقته وتثبته في النقل، وفي هذا المثال من الصعب البناء على قوله في الأمور الخطيرة والمهمة ولكن يمكن الاعتماد على قوله في الأمور المهمة والخطيرة بعد مزيد معرفة به، وهذه المعرفة يمكن ان تنفي احتمال كذب المخبر بعد مزيد معرفة وبتتبع حاله فتجده مثلا لا يكذب حتى في الأمور الخطيرة والتي تدفع عنه الضرر أو تجلب له منفعة، وبتراكم خبراتك به يمكن أن تطمئن بخبره المهم والخطير بل تصل إلى اليقين بصدقه.
المثال الثاني: إذا كنت تعرف الشخص معرفة دقيقة ولم تجد منه إلا الاستقامة والصدق حتى في الموارد الخطيرة بل وجدته في موارد احتاج فيها إلى الكذب لجلب منفعة أو دفع ضرر ومع ذلك لم يصدر منه الكذب، وكان بحسب معرفتك به دقيقا متثبتا في اخباراته فمثله يصدق مباشرة حتى في الأمور الخطيرة والمهمة، وعلى فرض وجود شك منشأه يمكن أن يندفع مع استمرار الصحبة واستمرار سيرته الحسنة المتضمنة للصدق.
تعليقات على المثالين المتقدمين:
التعليق الأول: نجد في المثال الأول عدم كفاية السيرة المتقدمة على ادعاء النبوة بل اعتمد على السيرة المتأخرة بخلاف المثال الثاني الذي اعتمد على السيرة المتقدمة للتصديق، وبذلك يتضح أن المناط والضابطة ليس في تقدم السيرة أو تأخرها إنما هو بملاحظة مجموع خصوصيات مدعي النبوة والتي بتراكمها توصل لليقين بتصديقه.
التعليق الثاني: في المثالين المتقدمين كان التركيز على خصلة واحدة من الخلق الحسن وهي الصدق ومع تراكم باقي الخصال الحسنة كالتواضع وعدم خلف الوعد والأمانة والعدل والكرم وغيرها من الأخلاق الحسنة فتحصيل اليقين بضمها أقرب وأقوى.
التعليق الثالث: اليقين بأن المدعي صادق في دعواه يثبت وجود منشأ لهذه الدعوى بمعنى أننا نعلم أنه في قرارة نفسه لا يكذب، فيثبت أنه يرى ويعتمد على شيء في دعواه دون إثبات منشأ دعوته، فلا يثبت بما تقدم أن منشأ هذا الشيء الذي ترتكز عليه هذه الدعوة هو من فعل الخالق سبحانه فلابد من قرائن أخرى ترفع احتمال الاشتباه لسبب كالمرض سواء النفسي أو الجسدي المؤثر في حكم العقل كالهلوسة بسبب نقص الطعام أو الماء.

 

تنبيه: 
من الأوهام التي قد يقع فيها البعض في دفع الاستدلال الأول والثاني هو ما وقع من الفخر الرازي(1) بقوله عن الاستدلال الثاني أنّه لا يدل على النبوة إنما يدل على تميز المدعي على سائر الناس بالفضيلة، وهذا الدفع من الاشتباه لأنّ المستدل لا يقول بأن مثل هذه الأخلاق كاشفة عن نبوته ودليل عليها إنما الادعاء هو أنها كاشفة عن صدقه في دعواه وفرق بين الامرين، وبعبارة أخرى لعل الفخر الرازي يريد أن ينفي الملازمة بين حسن السيرة والنبوة ونحن نسلم بانتفاء الملازمة، والمستدل لا يقول بالملازمة بل يقول أنّ السيرة طريق كاشف عن صدقه فيما يدعيه ومما يدعيه النبوة.

 

ثانيا: النظر إليها بمجموعها على انها قرائن وإضافة قرائن أخرى في حساب الاحتمالات:
من النقاط الثلاث وهي حسن سيرة المدعي قبل الدعوة وبعدها وأدوات المدعي فهي ترجع إلى دليل واحد وهو حسن الخلق الكاشف عن صدق المدعي، ولابد من ملاحظة خصوصيات المدعي وبحساب الاحتمال يمكن حصول الإطمئنان أو اليقين بصدق المدعي، ولكن جل ما يثبته هذا الاستدلال صدقه في دعواه ولا يثبت مطابقة دعواه للواقع فلا يرفع احتمال وقوع المدعي في الاشتباه وقد تقدم بيان هذا الأمر واتضحت النقاط بتطبيقها في المثالين، نعم السيد الأستاذ في كتابه(2) في تحقيق أدلة النبوة قال بإمكان إضافة قرائن أخرى لحساب الاحتمال لدفع احتمال الاشتباه وهي الأمور التالية:
أولا: اتزان شخصية مدعي النبوة والذي يرفع احتمال حصول مثل هذه الأمور من اضطرابات نفسية 
ثانيا: تكثر ما ينسبه المدعي لله مع عدم مخالفة ذلك لحكم العقل والمنطق والأخلاق
ثالثا: عدم حصول التردد والاضراب عند المدعي في دعواه 
رابعا: تناسب ما ينسبه لله مع الاحداث والواقع

فإن أحرز المكلف خصوصيات المدعي وانكشف عنده حسن خلقه الكاشف عن صدقه في دعواه إضافة للقرائن التي تقدمت من ثبات شخصية المدعي واتزانه وموافقة الأحكام الكثيرة التي ينسبها لله لحكم العقل والمنطق والأخلاق والواقع والاحداث المحيطة أمكن ارتفاع احتمال الاشتباه وبذلك يمكن الاطمئنان بثبوت دعواه بل يمكن حصول اليقين بحساب الاحتمالات وهذا كله من الجهة الثبوتية، واما اثباتا فهو وان كان فيه صعوبة ولكنه ممكن سواء بالاقتصار على القرائن المتقدمة او بإضافة قرائن أخرى، والصعوبة هي من جهة أنّ مثل هذه الخصوصيات لابد من احرازها بالمعاصرة والعشرة أو بتواترها.

 

توضيح للاستدلال بمجموع القرائن:
تطبيقا على المثالين المتقدمين فقد ثبت إمكان اليقين بخبر المدعي ويكون البحث هنا في مطابقة دعواه للواقع وارتفاع احتمال الاشتباه، فنقول بعد الفراغ عن صدقه في دعواه أنه لا بد من أن نتامل في تشريعاته فمع ثباتها وثبات مناطها فإن من يعاني من اضطراب نفسي ينكشف مع الوقت ويظهر عليه التخبط ولا حاجة لوقت طويل لانكشافه خاصة مع ملاحظة تصديه لأمر مثل النبوة والقيادة وتصديه لكبراء القوم، ذلك مضافا لعدم تخبط المدعي وانجراره للمغريات التي تعرض عليه وثباته مع قلة العدد وكثرة العدو، وملاحظة ما ينسبه لله من أحكام كثيرة مرتبطة بالعبادات والمعاملات وتكاليف وحقوق تتعلق بكل جزئية في حياة المكلف ومناسبتها لأحكام العقل والمنطق والأخلاق، وعدم التخبط فيها مع تقلب الحال من شدة ورخاء فبمجموع ما تقدم من قرائن نقطع باتزان شخصية مدعي النبوة وترتفع شبهة الاشتباه نتيجة لمرض نفسي أو جسدي مؤثر على العقل.

 

طريق آخر اوضح في اثبات النبوة:
والطريق الأجلى في اثبات صدق مدعي النبوة هي بالمعجز، فإن فعل المولى لأمر خارق للعادة بعد ادعاء المدعي لصدوره عن الله تأييدا له فيه دلالة وضعية كاشفة عن تصديقه في دعواه، ولا يحتمل في هذا الأمر الاشتباه لصدوره عن الخالق، ويمكن أن يضاف إلى أصل المعجز تكرر المعاجز على يد النبي والتي تكشف عن استمرار التأييد(3)، وعلى كل حال من لا يصل لليقين من خلال نفس المعجز بسبب احتمال عقلي معين ومع عدم العلم الضروري يمكن أن يصل لليقين من خلال ضم قرينة كحسن خلق المدعي كقرينة موصلة لليقين بسبب الانسداد.

 

تنبيهان:
الأول: ما تقدم من استدلال هو مع عدم ملاحظة ثبوت النبوة العامة واما مع ملاحظة ثبوتها فإن إيصال الاستدلال إلى اليقين يكون أسهل، والمراد بالنبوة العامة هو الحكم بضرورة ولزوم ارسال الخالق للأنبياء. 
الثاني: الارتكاز الموجود في اذهان المسلمين من أن النبوة قد ختمت من الممكن أن يؤثر على استيعاب المطلب، لأنه عندما نحاول تطبيق الاستدلال المتقدم اليوم مع وجود ارتكاز ختم النبوة نجد ضعفا في الاستدلال، ولكن هذا الاستدلال على فرض عدم وجود دليل قطعي بختم النبوة.

 

خلاصة ما تقدم في نقاط:
1-    حسن الخلق يمكن أن يوصل إلى الاطمئنان بل إلى اليقين بصدق مدعي النبوة وذلك بانكشاف خصوصيات المدعي وبحساب الاحتمالات، ولكن حسن الخلق لا يكشف عن مطابقة دعوى مدعي النبوة للواقع فلا يرتفع احتمال الاشتباه بما تقدم.
2-    يمكن دفع احتمال الاشتباه بالنظر إلى مجموعة من الأمور كالاتزان في شخصية المدعي ومناسبة ما ينسبه لله من أحكام لحكم العقل والمنطق والواقع. 
3-    ما تقدم من استدلال بمجموع القرائن ممكن ثبوتا واثباتا، وإن كان لإثباته فيه مزيد نظر وفحص ولكنه متيسر لمن عاصر المدعي وممكن للمتتبع ممن لم يعاصر.
4-    أفضل طريق لإثبات النبوة هو بالاعتماد دليل المعجز الكاشف عن تأييد الخالق لادعاء مدعي النبوة وتفصيله في موضع آخر. 

شارك عبر الرابط شارك على الواتس اب شارك على X أنشرها على الفيسبوك شارك على تليغرام

هل لديك سؤال؟ اسألنا!

اسأل الباحث