ما الدليل على حدوث العالم؟
لنقف على الجواب نمهد بذكر مقدمتين:
الأولى - بيان المصطلحات:
"العَالَم" كل ما سوى الله تعالى = جميع المخلوقات.
الحدوث: "أن يكون للشيء بداية" بمعنى أنه قبل هذه البداية لم يكن موجودا، فمعنى كون الشيء حادثا هو أنه "لم يكن موجودا ثم وجد"، والحدوث في قبال القِدَم، والحادث في قبال القديم.
فالمراد من "حدوث العالم" أن كل ما سوى الله تعالى وُجِد بعد أن لم يكن موجودا = له بداية، وهذا يعني نفي أزلية العالَم.
الثانية – بيان معنى المادة والصورة:
هذا العالم الذي نراه ونحس به مكون من أمرين: مادة وصورة، ونعني بالمادة ما يتكون منه العالم، فهي ذات الشيء، وهي أمر باق ثابت، ونعني بالصورة الهيئة التي على أساسها تترتب المادة، وهي متغيرة وتتعاقب على المادة[1].
فالعالم كله كالبنيان الذي يتكون من مادة -وهي الطوابيق- وصورة -وهي الهيئة المخصوصة التي تترتب على وفقها الطوابيق-، وهذه الطوابيق وحدَها لا تكفي ليوجد البناء، بل لا بد أن تكون على ترتيب وهيئة معينة، فلو أردت بناء بيت بها فستكون على هيئة مخصوصة، ولو جعلتها كومة ستكون على هيئة أخرى مغايرة، وهكذا، ومن هنا يعلم أن المادة لا توجد لوحدها، كما أن الصورة لا توجد لوحدها.
ولندلل على ما ذكرناه من تكون العالم من مادة وصورة لاحظ الأمثلة التالية:
المثال الأول: الماء مكون من مادة وهي ذَرّاتُه، ولكنه لا يوجد إلا بصورة معينة كصورة الكوب الذي هو فيه أو صورة قطرة مطر أو صورة كرة بلورية وما أشبه ذلك.
المثال الثاني: ما الفرق بين الثلج والماء والبخار؟ لاحظ أنها كلها تشترك في المادة وهي ذرات الماء، إلا أن الفرق بينها هو التباعد الذي بين ذراتها، وهذا التباعد ومقداره هو الهيئة التي على أساسها ترتبت المادة، وبه افترق الماء السائل عن البخار والثلج.
المثال الثالث: الماء مكون من ذرتي هايدروجين وذرة أكسجين، فهذه الذرات مادته، لكن حتى يصير الماء ماء لا بد لهذه الذرات أن توجد مرتبطة مع بعضها على صورة معينة بترتيب معين وبمسافة معينة بين كل ذرة وأخرى، وإلا لما صار الماء ماء[2].
الخلاصة:
- العالم كله مكون من مادة وصورة.
- المادة لا توجد لوحدها، بل لا بد من صورة لهذه المادة، كالطول والعرض والعمق والشكل والمكان الذي هي فيه والتباعد بين أفراد مادته وغير ذلك.
- الصورة لا يمكن أن توجد لوحدها دون مادة.
هل العالم حادث؟
(أ) تعاقب الصور وامتناع اجتماعها
العالَم له صور متعاقبة واحدةً بعد الأخرى، ونعني بالتعاقب أن العالم في كل لحظة يكون على صورة معينة، وكلما حدث تغير في هذا العالم تغيرت صورته بانعدام الصورة السابقة ووجود الصورة الجديدة، فإذا طلع النهار فقد تغيرت صورة العالم بسبب تغير موقع الأرض من الشمس بدورانها، وهكذا أي تغيير بسيط في هذا العالم سيَنتُجُ منه تغيّرٌ لصورة العالم.
وهذا الأمر بديهي؛ لأن الصورة هي عبارة عن ترتيب المادة، وكلما حصل تغيير في هذا العالم يكون من قبيل اعادة ترتيب للمادة، فهو بالتالي تغيير للصورة التي عليها المادة = تغير في صورة العالم[3].
(ب) لزوم فناء الصور السابقة على الصورة الفعلية
لو فرضنا أن مادة العالم كانت على (صورة أ) ثم انتقلت إلى (صورة ب)، حتى يصير العالم في الصورة الثانية (ب) لا بد من أن تفنى وتنقضي الصورة السابقة (صورة أ) التي كان عليها، فما لم تَفْنَ وتنقضِ (صورة أ) لا يمكن للعالم أن يكون على (صورة ب)، وهذا أمر واضح.
ولهذا لا يمكن أن يكون ليل ونهار في بقعة واحدة في العالم في الوقت نفسه، فلو كان الخليج العربي -مثلا- مواجها للشمس فالقارة الأمريكية لا محالة في الطرف المقابل للشمس، ولنسم هذه الصورة (أ)، فلو استدارت الأرض ١٨٠ درجة ستتغير الهيئة بعكس ما كانت عليه، وستكون القارة الأمريكية مواجهة للشمس والخليج في الطرف غير المواجه، ولنسم هذه الصورة (ب)، فلاحظ أنه لا يمكن أن يكون الخليج والقارة الأمريكية كلاهما مواجهين للشمس في آن واحد، فلا بد من انقضاء الصورة (أ) حتى تتحقق الصورة (ب).
وبطبيعة الحال الكلام نفسه جار في الصورة (أ) حيث لا تقع إلا بانقضاء الصورة التي قبلها، وهكذا دواليك.
الخلاصة: حتى يتشكل العالم على صورة معينة كالصورة التي هو عليها الآن، لا بد من انقضاء جميع الصور التي قبله.
(ج) هل الصور السابقة متناهية؟
هل الصور السابقة التي كان عليها العالم قبل الصورة الحالية (الآن في هذه الثانية مثلا) معدودة، محدودة، لها صورة أولى بدأت عندها؟ أم أن الصور التي قبل هذه اللحظة غير محدودة، لا أول لها؟
لو قلنا بأنها غير محدودة ولا متناهية فالعالم إذن قديم أزلي لا أول له؛ لعدم وجود بداية لصور العالم المتعاقبة، ولو قلنا بأنها محدودة لقلنا بأن العالم حادث، له أول (لاحظ شكل 1).
والجواب على هذا يتضح بالسؤال التالي: لو افترضنا أن شيئا ما عدده غير محدود، مثلا: عندي أموال غير محدودة، فهل يمكن أن تنتهي أموالي؟! الجواب: كلا؛ لأن اللامحدود بحسب تعريفه أمر لا ينتهي، فإذا فرضته ينتهي عند حد معين فلم يعد "لا محدودا"، تأمل جيدا.
عودا إلى السؤال في بداية هذه النقطة، هل الصور السابقة قبل الصورة التي عليها العالم الآن محدودة أم لا متناهية؟
الجواب:
· تقدم في النقطة (ب) أنه لا بد أن تنقضي كل الصور السابقة للعالم حتى نصل إلى صورتنا الحالية، وإلا لما وصلنا إلى هذه الصور الحالية.
· قد ذكرنا قبل قليل أن انقضاء اللامتناهي أمر مُحال، فلو قلنا أن الصور السابقة غير متناهية لما أمكن لها أن تنتهي وتصل إلى الصورة الحالية؛ لعدم إمكان انقضائِها، فلا يمكن أن تكون الصور السابقة لهذه الصورة الحالية غير متناهية.
النتيجة: لا بد أن نقول أن الصور قبل الصورة الحالية محدودة، وبهذا يثبت أن الكون حادث.
خلاصة الجواب:
العالم -وهو كل ماسوى الخالق- مكون من مادة وصورة، وهذه الصور التي يتشكل بها العالم متعاقبة، لا تجتمع صورتان في آن واحد، ثم إنه حتى يتشكل العالم على الصورة الحالية لا بد من انقضاء جميع الصور السابقة عليه وإلا لما وصل إلى الصورة الحالية، وهذه الصور السابقة لايمكن أن تكون لامتناهية؛ لأن اللامتانهي لا يمكن أن ينقضي وينتهي، ولو كان كذلك لما وجدت الصورة الحالية، فثبت أن الصور السابقة متناهية، وبه يثبت أن "العالم حادث".
----------
[1] ملاحظة: هذا المعنى مغاير لما يذكر في معنى المادة والصورة في علم الفلسفة.
[2] بل إن الأمر أدق من ذلك، فقد ذكر في محله أن الذرة الواحدة مشكلة من بروتونات ونيوترونات وإلكرتونات، فهل توجد الذرة من دون صورة خاصة وترتيب مخصوص بين هذه الجُسيمات؟ كلا، فالنيوترونات والبروتونات تكون في النواة لا خارجها، والإلكرتونات تدور حول النواة بترتيب خاص ودقيق، فتأمل.
[3] قد يفرض في البين صورة أخرى من التغير، وهو تغير المادة وجودا وعدما، وهذا في حد ذاته ممكن لكنه ليس دخيلا في صلب البحث ولا يؤثر على جواب السؤال.