روى الكليني بسنده عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة
ما معنى هذا الكلام؟
وكيف يخلق الله الأشياء بالمشيئة؟
وهل معنى هذا أن الله لا يباشر خلق الأشياء؟
وهل المشيئة آلة وواسطة في إيجاد الأشياء، بحيث تكون كالعصا بالنسبة للضارب وكالقلم بالنسبة للكاتب؟
وكيف يخلق الله المشيئة بنفسها؟
والجواب على هذه التساؤلات يتّضح من خلال هذه النقاط:
١- الرواية صريحة في أن المشيئة مخلوقة وحادثة؛ وعليه لا يمكن أن تكون المشيئة صفة من صفات الله تعالى القائمة به، وذلك لأن ذات الله تعالى لا تقوم بها الحوادث
٢- أن الباء قد تأتي بمعنيين:
المعنى الأول: الآلة؛ وهو كما في هذه الأمثلة:
ضرب زيد بالعصا
كتب زيد بالقلم
فهنا العصا والقلم آلة وواسطة حقيقية في فعل الضرب والكتابة
المعنى الثاني: هو الشيء الذي بسببه يفعل الفاعل الفعل، وهو كما في هذه الأمثلة:
قال تعالى: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب}
قال تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}
قال تعالى: {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}
وكما جاء في الحديث: أن الله عز وجل لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي
فنلاحظ هنا أن ما دخلت عليه الباء في هذه الأمثلة ليست آلة في الفعل، وإنما هي أسباب لأجلها يفعل الله هذه الأفعال
ففي المثال الأول كان السبب الذي لأجله يعاقب الله تعالى آل فرعون هو صدور الذنوب منهم، وفي المثال الثاني كان السبب الذي لأجله يثيب الله المؤمنين هي أعمالهم الصالحة، وفي المثال الثالث كان السبب الذي لأجله خلق الله السماوات والأرض هو إقامة الحق والجزاء، وفي المثال الرابع كان السبب الذي لأجله يثيب الله الإنسان ويعاقبه هو العقل الذي وهبه إياه
وعليه هذه الباء في هذه الأمثلة ليست للآلة وإنما هي لبيان السبب والمقتضي والمبرر لئن يفعل الله تعالى هذه الأفعال
٣- عندما نريد أن نفهم رواية معيّنة، من المهم جدا مراجعة بقية الروايات التي تعرّضت لهذا الموضوع؛ وعند مراجعة بقية الروايات في المشيئة نجد أن الباء في رواية المشيئة -محلّ الكلام- هي للسبب والمبرّر وليست للآلة
يشهد ذلك عدة روايات:
روى الكليني بسنده عن زكريا بن عمران، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: لا يكون شئ في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله، أو رد على الله عز وجل.
وروى الكليني بسنده عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: لا يكون شئ إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، قلت: ما معنى شاء؟
قال ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدير الشئ من طوله وعرضه، قلت:
ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مرد له
فمن الواضح أن هذه الأشياء المذكورة -التي من ضمنها المشيئة- ليست آلات للفعل، وإنما هي أسباب ومبررات لأجلها يوقع الله الأشياء في الكون؛ فلا شيء يوقعه الله تعالى في الكون إلا وقد تمّ تعيينه في المشيئة والإرادة والقضاء والقدر؛ ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يوقع شيئا في العالم إلا بعد ما يُثبته عبر القلم واللوح والكتاب؛ والمشيئة والإرادة والقضاء والقدر تعبير عن هذه الأمور
ويشهد لهذا المعنى هذه الرواية:
روى الصدوق بسنده عن زرارة، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء
فالرواية تدلّ أن القضاء والقدر مخلوقان من خلق الله، لأجلهما يوقع الله الأشياء في الخارج، ومع ضم هذه الرواية مع الرواية السابقة يتّضح أن المشيئة كالقضاء والقدر المخلوقين من حيث أن الله تعالى يخلق الأشياء بهما
وأيضا روى الصدوق بسنده عن حمزة ابن حمران أنه قال للإمام: فإني أقول إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد إلا ما يستطيعون وإلا ما يطيقون، فإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره
فقال الإمام عليه السلام: هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي أو كما قال
وهذه الرواية تدلّ أن أفعال العباد لا تقع إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره؛ ومن الواضح أن هذه الأمور ليست آلات لأفعال العباد- إذا لو كانت المشيئة آلة في وجود فعل العبد للزم الجبر كما لا يخفى، وذلك لأن المُحدث للفعل سيكون المشيئة وليس العبد- والصحيح أنها أمور تتعلّق بأفعال العباد على نحو أن الله يأذن للعبد أن يفعل أفعاله بعد أن تتعلّق مشيئة الله وقضاؤه وقدره بهذه الأفعال؛ وقد تكون هذه المراحل إشارة للقلم واللوح وغيرها، التي بها يوقع الله الأشياء في العالم
وقد أشار لذلك العلامة المجلسي عند ذكر أحد الوجوه التي رجّحها عند تفسيره لرواية المشيئة
قال العلامة المجلسي: هذا الخبر الذي هو من غوامض الاخبار يحتمل وجوها من التأويل:
الأول: أن لا يكون المراد بالمشيئة الإرادة بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشئ كالتقدير في اللوح مثلا والاثبات فيه، فإن اللوح وما أثبت فيه لم يحصل بتقدير آخر في لوح سوى ذلك اللوح، وإنما وجد سائر الأشياء بما قدر في ذلك اللوح، وربما يلوح هذا المعني من بعض الأخبار كما سيأتي في كتاب العدل، وعلى هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير
وهذه المراحل بيّنتها هذه الرواية بشكل أكثر تفصيلا
روى الكليني بسنده عن يونس عن الرضا عليه السلام، قال: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، يا يونس تعلم ما المشيئة؟ قلت: لا
قال:هي الذكر الأول، فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا، قال: هي العزيمة على ما يشاء، فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال: هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: ثم قال: والقضاء هو الابرام وإقامة العين، قال: فاستأذنته أن اقبل رأسه و قلت: فتحت لي شيئا كنت عنه في غفله.
وهذه الرواية تدل أن هذه المراحل ليست آلات ووسائط في إيجاد الأشياء، وإنما هي عبارة عن قرارات متعلّقة بضبط الشيء وبيان حدوده قبل إيجاده، كما هو ظاهر من التعبير بأنها الذكر الأول والعزيمة على ما يشاء والهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء
ولتقريب الصورة -ولله المثل الأعلى- لنفرض أن هناك شخصا أنشأ برنامجا الكترونيا، وبعدها صار هذا الشخص إذا أراد أن يفعل شيئا فإنه يكتب ما سيفعله في هذا البرنامج وبعد ذلك يُنفّذ هذه الأفعال
فهنا يصحّ أن نقول: "هذا الشخص أنشأ البرنامج بنفسه، ثم أوجد بقية أفعاله بالبرنامج"
فالبرنامج الالكتروني في هذا المثال ليس آلة وواسطة في الفعل، وإنما هو سبب يقتضي قيامَ هذا الشخص بفعل هذه الأفعال باختياره بعد أن أثبتها وكتبها في البرنامج
ملاحظة: كلامنا لا يعني أن كل شيء يقع في العالم فإنه يقع مباشرة من الله تعالى، بل هناك أشياء تقع عبر الملائكة، كقبض الأرواح وإيصال الأرزاق وغيرها؛ وإنما كلامنا عن خصوص الخلق والإيجاد من عدم الذي هو مختصّ بالله تعالى كما دلّت النصوص
والخلاصة أن قول الإمام عليه السلام: خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة، ليس ظاهرا في أن المشيئة آلة وواسطة في الفعل؛ وذلك لأنه أولا الباء تحتمل معنيين، أولهما الآلة وثانيهما السببية التي لأجلها يفعل الفاعل الفعل؛ وبعد ملاحظة بقية الروايات- يتّضح أن المراد بالباء هو المعنى الثاني لا لأول؛ وذلك لأن المشيئة هي أول المراحل التي لأجل أنها تعلّقت ببعض الأشياء= خلق الله تلك الأشياء؛ وهذه المراحل هي المشيئة والإرادة والقضاء والقدر؛ ولمّا لم تكن هذه المراحل آلات ووسائط بين الله وما يخلقه، كانت المشيئة أيضا ليست آلة وواسطة بين الله وما يخلقه، وإنما هي مراحل يتم بها إثبات التقديرات الإلهية حتى يتم بعد ذلك إمضاؤها
وعليه يكون معنى السببية في الرواية أن الله إذا أراد أن يوجِد شيئا فإنه يُحدث مشيئة متعلقة بهذا الشيء ثم يُحدث إرادة متعلقة بهذا الشيء ثم يُحدث قدرا متعلقا بهذا الشيء ثم يُحدث قضاء متعلقا بهذا الشيء ثم يوجِد هذا الشيء
ملاحظة أخرى: بعد البحث السريع، لم أجد رواية تصرّح أن المشيئة هم أهل البيت عليهم السلام، فلا أعلم على أي أساس تم إسقاط رواية المشيئة عليهم سلام الله عليهم؟!!
بل وجدنا رواية تنفي ما يقولونه من وجود واسطة بين الله والخلق، وتصف الرواية هذا القول بأنه شرك!
روى الصدوق بسنده عن محمد بن عيسى عن محمد بن عرفه قال: قلت للرضا عليه السلام: خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟
فقال عليه السلام: لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة لأنك إذا قلت: خلق الأشياء بالقدرة فكأنك قد جعلت القدرة شيئا غيره وجعلتها آله له بها خلق الأشياء وهذا شرك
وإذا قلت خلق الأشياء بغير قدره فإنما تصفه انه جعلها باقتدار عليها وقدره ولكن ليس هو بضعيف وعاجز ولا محتاج إلى غيره بل هو سبحانه قادر لذاته لا بالقدرة
وما يدل على الخلق المباشر أيضا قول أمير المؤمنين عليه السلام الذي رواه الكليني: ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ولا تعب ولا نصب وكل صانع شئ فمن شئ صنع، والله لا من شئ صنع
روى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام:
ليس بين الخالق والمخلوق شئ
فالله خالق الأشياء لا من شئ كان
بقي شيء، وهو ما معنى قوله: خلق الله المشيئة بنفسها؟
والجواب هو أن المشيئة مخلوقة لا بمشيئة، لأنها لو خلقت بمشيئة يلزم أن تكون المشيئة التي خُلقت بها المشيئة = مخلوقة بمشيئة أخرى، وهكذا فيلزم التسلسل
فالإمام قال: خلق الله المشيئة بنفسها؛ أي بلا مشيئة سابقة
فالباء هنا أيضا لنفي الواسطةوهو كما أقول: فعلت هذا الأمر بنفسي
أي بلا واسطة بيني وبين الفعل
فيكون معنى الرواية: أن الله خلق المشيئة بلا توسّط مشيئة أخرى بينه وبينها وبلا تقدير وقضاء سابق، بل هي أول مراحل التقديرات كما ذكر العلامة المجلسي