image
منهج مقترح لبحث الخلاف المذهبي - الجزء الاول
كتب بواسطة إبراهيم أحمد بن سليم
حرر في 2023-12-06
12:12
العقائد
449

إن الخلافات المذهبية - بل والفكرية بكافة مجالاتها – بين البشر قديمة ومستمرة، تتجدد بطبيعتها وتتطور ولكنها لا تنقطع أبداً، قد أُستخدمت ووُظفت من قبل كافة الأطراف السياسية والدينية وغيرها لغاياتٍ حسنة وأخرى قبيحة، ولذلك يرى البعض الجدال فيها شراً حري بالعقلاء تجنبه، ويراه آخر خيراً وعملاً مقدساً يجدر بنا الاجتهاد فيه، وبين هذا وذاك تتعدد الرؤى، والحق أنه خير وشر بحسب أغراضه وأسلوبه؛ فالجدال إذا كان مبنياً على أسسٍ علمية ومنهجٍ سليمٍ وأسلوب يتسم بالاحترام والصدق والانصاف فإنه يساهم بهدم الحواجز بين المختلفين، ويؤدي إلى تفاهم الأطراف، وإلا كان سبباً وباباً للشرور.

فإذا اتضح ذلك تتبين أهمية المناهج المتبعة في بحث الخلافات بشكل عام، فإذا صلح المنهج صلح البحث، وإذا فسد فسد، وواأسفاه على واقع الأبحاث الفكرية عموماً وأبحاث الخلاف المذهبيخصوصاً، فقد وجدتها في عادتها غنية المغالطات والتحامل فقيرة الدقة والإنصاف، مما أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولذا ارتأيت أن أشرع بكتابة سلسلة من المقالات – هذا أولها – لطرح منهج مقترح لدراسة الخلاف المذهبي بين أهل السنة والإمامية، سائلاً الله عز وجل لي ولكم التوفيق.

إن أول خطوات البحث والمقارنة بين المذهبين – بعد إخلاص النية لله وقصد الوصول للحق والحقيقة وتجنب المهاترات والاصطفاف الطائفي - هي (فهم كل مذهب كما يفهمه أهله) ، فنفهم المذهب السني كما يفهمه أهل السنة لا كما يتصوره الإمامية، ونفهم المذهب الإمامي كما يفهمه الشيعة لا كما يتصوره أهل السنة، ولا يكون ذلك إلا بما يلي :-

1- أخذ المذهب من أهله لا من خصومه.

من غير الطبيعي أن نكتفي بقراءة كتاب إمامي يرُد على أهل السنة ثم نقول إننا قد بحثنا في الخلاف المذهبي وفهمنا المذهب السني، وكذلك من غير الطبيعي قراءة كتاب سني يرد على الإماميةوالاعتماد عليه في دراسة وفهم المذهب الإمامي، بل يجب أخذ كل مذهب من كتبه، فإن المخالف لعقيدةٍ مهما حاول الانصاف واجتهد لن يكون كصاحب العقيدة نفسه، ولن يأمن الوقوع في الخطأ.

وقد وجدت أكثر الكتب الخلافية من الطرفين مليئة بالمغالطات الناتجة عن سوء فهم الرأي المقابل، بل وجدنا أكاذيب صرفة – تعمد صاحبها الكذب أم لا -، ككلام ابن تيمية في منهاجه – والذي يعتبر من أكبر الكتب في هذا المجال - الجزء الأول صفحة 38 : "ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ العشرة أو فعل شيء يكون عشرة، حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة".

فمن الواضح بطلان هذا الادعاء على سخفه وسفهه لخلو كتب الإمامية منه، ويكفي لإبطاله نظرة سريعة لأحد مصادر الحديث المعتمدة عند الإمامي وهو كتاب الخصال للشيخ الصدوق باب العشرة؛ وأذكر عشرة من عناوينه : أسماء النبي صلى الله عليه وآله عشرة، عشرة خصال من صفات الإمام، العافية عشرة أجزاء، الزهد عشرة أجزاء، الحياء عشرة أجزاء، للمرأة صبر عشرة رجال، الصلاة على عشرة أوجه، ثواب من حج عشر حجج، ثواب من أذن عشر سنين محتسباً، ما فرض على كل مسلم أن يقوله كل يوم قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات.

2- أن نأخذ العقيدة كما يفهمها أهلها لا كما نفهمها نحن.

لكل مذهب مصادر خاصة للحديث، يستقي منها أهل المذهب عقائدهم وأحكامهم ويلتزمون بما فيها، ولكن هذا لا يعني أن كل ما قد يستنبط من تلك الأحاديث يُلزم به أهل ذلك المذهب، فلا يمكن أن يستنبط الباحث عقيدة من نصوص مذهب ثم يقول أن هذه عقيدتهم، جل ما يمكن أن يقال هنا أنه يلزمهم الإيمان بكذا وكذا، فإن التزموا كان بها وإلا فلا يمكن نسبة الكلام لهم.

ومن المشاكل التي وقع بها كثير من الباحثين بسبب غفلتهم أو تغافلهم عن هذه النقطة نسبة القول بتحريف القرآن لكثير من علماء الإمامية؛ كالكليني والصدوق، لمجرد روايتهم لأحاديث فهم منها ذلك الباحث القول بتحريف القرآن، ورأى أن هذا ظاهر معناها، ثم جر هذه النسبة على عموم الإمامية بعلمائهم وعوامهم، متجاهلاً إنكار الإمامية بل وإنكار الصدوق نفسه لهذا المعنى، وتوجيههم لتلك الأحاديث لمعاني أخرى.

3- أخذ الخلاف داخل المذهب الواحد بعين الاعتبار.

من الطبيعي أن يختلف أهل المذهب الواحد في بعض المسائل الفقهية أو العقدية، وفي هذه الحالة يجب أخذ هذا الخلاف بعين الاعتبار، فلا ينسب قول لمذهب إلا إذا كان محل اتفاق بينهم أو يكون القول قول الجمهور، أما أن يأتي الباحث إلى قول مختلف فيه أو قول شاذ فينسبه إلى المذهب فليس ذلك من الانصاف في شيء.

وقد وجدنا ذلك منتشراً في النقاشات والمهاترات بين المذهبين وفي الكتب المتعلقة بالخلاف المذهبي؛ وذلك كنسبة تعطيل صلاة الجمعة للإمامية في عصر الغيبة، فهي مسألة خلافية دأب الخصم على التمسك بقول من ذهب إلى عدم مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة وتجاهل قول من خالفه لمجرد التشنيع.

4- قراءة مقدار معتد به من الكتب الشارحة لعقيدة كل مذهب.

من المهم أن يبدأ الباحث في هذه الخطوة بقراءة الكتب الشارحة لعقيدة كل مذهب؛ فيقرأ مثلاً كتاب شرح العقيدة الواسطية للعثيمين لفهم العقيدة السنية السلفية، ويقرأ كتاب أصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم لفهم العقيدة الإمامية، ويستمر في قراءة المؤلفات التي ألفها أهل كل مذهب لشرح عقيدتهم من أمثال ما ذكرت، فيقرأ منها ما يستطيع، فيعرف الباحث حينئذ ويميز بينالمسائل المهمة في المذهب من المسائل الهامشية، والمسائل المتفق عليها من المسائل المختلف فيها.

فإذا كان ذلك انكشف فساد كثير من الأطروحات التي ضخمت مسائل هامشية في المذهب المراد بحثه حتى صارت من أصوله، وصغرت مسائل مصيرية فيه حتى صارت مسائل عادية، فاختلط الحابل بالنابل، ومن أراد أمثلة فليراجع مؤلفات الدكتور ناصر القفاري الذي جعل التقية وتحريف القرآن وسب الصحابة والعصمة والغيبة (أصول دين الشيعة)، أو ليراجع المسائل التي سود بها طلال الحارثي صفحات كتابه (هل تحب أن تكون في وفد الإمام الحسين يوم القيامة؟).

5- التعرف على مصادر كل مذهب وقواعد أهله.

بعد الفراغ من الخطوة السابقة ينبغي على الباحث التعرف على مصادر الحديث والتاريخ والتفسير والتراجم وغيرها من المجالات، السنية منها والإمامية، يكفي في ذلك أن يعرف الباحث الكتاب ووزنه العلمي وزمانه وتصنيفه (فقهي أم عقدي، في التوحيد أم في الإمامة ... إلخ) ، كما يجب أن يعرف مقدار معتد به من قواعد أهله، كعلم الحديث مثلاً، كيف يؤخذ الحديث عند أهل السنة مثلاً؟ وكيف يُرد؟ وكيف يوثق الراوي وكيف يُضعف؟ وكلما تعمق في هذا المجال كان أفضل وأجدر.

وقد تسبب تجاهل بعض الباحثين لهذا الأمر بمغالطات في بحوثهم؛ فتجد الإمامي أحياناً يحتج بكتب لا يعترف بها أهل السنة؛ كينابيع المودة ومروج الذهب، ويحتج أحياناً بكل ما يجده في الكتب المعتبرة – كمسند أحمد – صح سنده أم لا، وبالمقابل تجد السني يحتج على الإمامي بكل ما يجده في كتاب الكافي مثلاً، ظناً منه أن الإمامي يقبلون كل كلمة جاءت فيه كما يقبل هو بكل ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم.

وهذا أخر المقال الأول من مقالات المنهج المقترح لبحث الخلاف المذهبي، لم أقصد منه الإساءة لأحد ولا المجاملة لأحد، وإنما هي نصائح عامة أرجو أن تكون ذات فائدة، وأنوي أن أكمل المنهج في مقالات قادمة بتوفيق الله وعونه، ثم أبدأ في بعض التطبيقات لهذا المنهج لتتميم الفائدة، فإن أصبت فبتوفيق من الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والحمدلله رب العالمين.